.... اصوات الصغار🌿


 

 الكاتب_ الشاعر أ. عبد الفتاح الطياري

🌿🌿🌿🌿🌿🌿🌿🌿

أصوات الصغار

الجزء الثاني من قصتي "غريب العائلة"

عاد سعيد في السبت التالي إلى بيت الجَدّ، كعادته، رغم ثقل الزيارة. الطريق نفسها، الساحة نفسها، لكن قلبه صار أكثر يقظة، يتوقع الطعنات الصغيرة التي تأتي من حيث لا يحتسب. كان الأطفال يركضون في الساحة قبل الغداء... أبناء الأخوال يتسابقون بين أشجار الليمون، ضحكاتهم تتعالى كأجراس صغيرة لا تهدأ. اقترب منه ابن خاله الصغير مهدي، في الثامنة من عمره، ووجهه يلمع ببراءة مزجت بين الفضول والجرأة. قال ببراءة متعمَّدة:

أبي يقول إنك لا تعمل عملًا حقيقيًا… هل صحيح أنك تقرأ فقط؟

ارتبك سعيد لحظة، ثم ابتسم محاولًا إخفاء ضيق صدره:

القراءة عمل أيضًا، يا بطل. بها نتعلم أشياء كثيرة. لكن الطفل لم يكتفِ، وواصل بنبرة يردد فيها ما يسمعونه من الكبار:

عمي عبد الحق يقول: القارئ يظل فقيرًا. حتى أمي تقول إنك غريب مثل شخص في فيلم!

كانت كلمات الصغير كسهام تطعن دون قصد. ضحك بعض الأطفال الآخرين بدأوا يقلدون:

غريب! غريب! رجل الكتب!

شعر سعيد بشيء ينكسر داخله. الأطفال يكررون ما يسمعنه على موائد الكبار، لكن وقع كلماتهم أقسى، لأنها تأتي بلا حواجز، بلا مراعاة، حقيقة مجردة من التزيين. حاول أن يغير الموضوع، فجلس يحدثهم عن مغامرات في كتب الأطفال، لكنهم تفرقوا بسرعة نحو كرة القدم، تاركينه في زاوية الفَنَاء كأنهم تركوا حوله دائرة هواء فارغة. في الداخل، كانت النساء يراقبن المشهد من خلف النوافذ. سمع خالته زينب تهمس لابنتها:

لا تقتربي كثيرًا من سعيد، إنه لا يفهم الحياة مثلنا.

التفتت الطفلة بحيرة نحو أمها، لكنها حفظت العبارة جيدًا، مثل تعويذة ضد الغريب. أحس سعيد بأن تلك الجملة ستتسرب إلى لعبهن، وستصير قانونًا صغيرًا:

سعيد مختلف، إذًا سعيد ليس رجلا مثلنا...

عند المائدة، تكررت النَّغْمَة نفسها. أبناء خالاته المراهقون يتفاخرون بخطط الدراسة في مجالات مربحة: الطب، الهندسة، التجارة. أحدهم، نظر نحوه ببراءة مزيّفة:

وأنت يا سعيد… هل يوجد قسم في الجامعة لتضييع الوقت؟ضحكوا جميعًا. ابتسم الجَدّ، لكن عينيه بقيتا جادتين. أحس سعيد بنظرته تحاول الاعتذار دون كلام، لكنها لم تخفِ طعنات الضحك المتناثر حوله. لم يكن الألم في الأسئلة نفسها، بل في يقينه أن ما يخرج من أفواه الأطفال اليوم هو بَذْرَة ستكبر غدًا لتصبح جدارًا جديدًا يعزله أكثر. 

حين انفض الجمع وغادر آخر الضيوف، وقف سعيد في الفَنَاء متأملًا وجوه الأطفال التي تلوّحت بشمس اللعب. تساءل في نفسه: هل يكرههم لأنهم يرددون ما لا يفهمون؟ أم يكره الكبار الذين زرعوا فيهم هذا الرفض الصغير؟ كان يعرف الجواب، لكن الاعتراف به يوجع أكثر... العائلة كلها – بأجيالها المختلفة –تحولت إلى مرآة واحدة تفضح صورته مشوّهة، حتى العيون البريئة الذي كان يجد فيها راحة…صارت تحمل ظلال الكبار وأحكامهم. بات الأبناء و الحفدة لا يردون عليه السلام و لا يصافحونه و لا يقبلنه عندما يلاقونه في الشارع...

فكيف آمن عائلة يُربٌٓي فيها البؤس من المهد...و يترعرع صغيرها في مخابر الزور و الحقد فتلمع صورة الكراهيَة كأسطورة الإفساد؟ و كما حكت جدتي قبل مغادرتها هذا الإرث: يأكل الغول الأطفال في غابة باع حراسها الخوف لعصابات الجور.

ركب سيارته ببطء، وبينما كان يغلق الباب، لمح ابن خالته الصغير يلوّح له بخجل. ابتسم الطفل ابتسامة قصيرة، ثم اختفى وراء جدار البيت. ابتسامة واحدة فقط… كأنها تذكير بأن شيئًا من النقاء لا يزال يقاوم. لكن سعيد أدرك أن هذه المقاومة وحدها لن تكفي ليبقى.

يتبع

بقلمي عبدالفتاح الطياري -تونس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

(((( أبت الحقارةُ أن تفارِقَ أهلها. ))))

يا من تراقبني بصمت

((((( قلت لأحلامي تعالي فتعالت. ))))