... زكريات ولكن🌿



  الكاتبة_ الشاعرة أ. هانم عطية الصيرفي

🌿🌿🌿🌿🌿🌿🌿🌿

 **ذكريات ولكن **

كان الصندوق الخشبي القديم احتفالاً بذكريات الماضي، يرجع إلى جهاز جدتي، حيث كانت تحتفظ فيه بمصوغات العروس وأشياء ذات قيمة، محاطًا برائحة زكية، لا يقترب منها سوى جدتي التي اعتنت به كأنه شيء مقدس، أثار فضولنا نحن، الأحفاد، كأطفال، لكن لم نجرؤ على الاقتراب منه. ومع مرور الأيام وكبرنا، ظل ذاك الصندوق يحمل في داخلي شوقًا لمعرفة أسراره. واليوم. سنحت لي الظروف، حين التحقت بالجامعة في المدينة التي تسكنها جدتي، انتقلت للإقامة عندها بحكم قرب المكان من جامعتي. ترتيبًا لذلك، حملت أمي معي أشياء تخصني من ملابس وأغراض شخصية، سعدت كثيرا حيث المدينة التي تقطنها جدتي محببة إلى قلبي منذ الطفولة، فهي لم تكن مجرد مكان للإقامة، بل ملاذ يفيض بحب جدتي ورعايتها. فالسفر إليها كان يحمل شغفًا لا مثيل له: طعامها المُفضل، صبرها علينا عندما كنا صغارًا، ودفء حضنها الذي لم أجد له شبيهًا. مع الوقت، تطورت علاقتي بها لتصبح علاقة صداقة عميقة. لم أعد ذلك الطفل الصغير، أصبحت صديقًا لها نتشارك الأحاديث كل ليلة، أسرد لها تفاصيل يومي بالجامعة، وأبوح لها بنبض قلبي الذي تعلق بزميلة لي. نستمر في الحديث وهي تصغي بكل حب، تُقدم نصائح حكيمة خالية من التعقيد وتصنع من حواراتنا مساحة للراحة والاستيعاب. ومع استمرار تلك العلاقة الحميمة بيننا، بدأت جدتي تحكي لي عن حياتها مع جدي وكيف كان تعامله معها مليئًا بالتقوى والرزانة، على الرغم من قدم الزمن. كانت متيمة به لدرجة الإعجاب والانبهار، تساءلت إن كان هذا الحب قد انتهى أم تواصل فيما بعد مع ذكرياتهما. شيئًا فشيئًا انتقلت هذه المشاعر إليّ، وأصبحت مشدودًا لسماع تفاصيل هذا الحب وتفاني جدي من أجل أسرته. في إحدى ليالي بعد العشية، طلبت جدتي أن أقرأ لها مذكرات جدي التي كتب فيها قصة حبهما وبعضا من أحوال حياتهما. على الفور وعدتها أن نبدأ القراءة في مساء الغد،. بدت مفعمة بالسعادة لقد وشت لي نزعة الشوق التي قرأتها في عينيها، وكأن استعادة الماضي هو عزاؤها الحتمي مع مرور الزمن. وعندما حلّ الليل، أحضرت جدتي الصندوق وفتحته بشغف يشبه دخول عالم ذكريات لا ينتهي. أخرجت المذكرات ووضعتها أمامي. قرأت بضعة أسطر بيني وبين نفسي حتى شعرت بشيء يفوق الاستيعاب؛ كلمات جدي حملت كثيرًا من النفاق وصورًا مستفزة تجرح قلب من يعرف جدتي جيدًا. وجدتها رسائل بعيدة كل البعد عن تقدير سمو أخلاقها أو جمالها الرفيع. لا حديث له عنها إلا شذرات قليلة بين أوصاف مشوهة لشأنها وجمالها. ذرفت دموع الحزن والأسى على جدتي التي أحبها دون شروط. شعرت بغصة عميقة وقلت في نفسي ساخرًا إن جدي كان غاويًا للتقليل من شأن الجميل حوله. لكني وقفت أمام تحدٍ مؤلم؛ كيف أواجه جدتي بما قرأت؟ هي تنتظر السعادة التي ظنت أنها ستجدها بين طيات تلك الأوراق. أغلقت الصندوق الذي بدا لي وكأنه تحول إلى عبء ثقيل على القلب، واستلقيت أفكر في حلّ يحفظ مشاعر جدتي دون أن أُؤذي صدق أحاسيسها أو ذكرياتها. في تلك اللحظة مازجت بين إرادتي وحبّي لها؛ قررت كتابة مذكرات جديدة بلسان جدي، تُعبر عما تستحقه جدتي فعلاً: أخلاقها السمحة ومحاسنها كما عرفتها أنا وأحفادها. استيقظت في منتصف الليل وبدأت العمل على تلك المهمة. جلست أمام المائدة وشرعت في نقش الكلمات التي تحمل عبقا صادقا مأخوذا من نبض سمو جدتي وأصيل أخلاقها، 

والجدير بالذكر أن كتاباتي نيابة عن جدي أسعدتها .

وكانت هي بداية كاتب لم يكن الأدب يوما في حسبانه. 


 بقلم: هانم عطية الصيرفي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

(((( أبت الحقارةُ أن تفارِقَ أهلها. ))))

يا من تراقبني بصمت

((((( قلت لأحلامي تعالي فتعالت. ))))