إن وصلتكم🌿
الكاتب_ الشاعر أ.وسيم عامر
🌿🌿🌿🌿🌿🌿🌿🌿🌿
إن وصلتكم هذه الرسالة.. فاعلموا أنني لم أنجُ.
أكتب إليكم من الأراضي الفلسطينية، وبالتحديد غزة،
حيث لا شيء هنا يُشبه النجاة،
سوى أننا نُجبر كل يومٍ على الفرار.
أكتب من زاويةٍ مظلمة،
لا يصلها الضوء.. إلا حين تنفجر قذيفة في الجوار.
هنا، يبكي الأطفال بلا دموع،
فالعيون أنهكتها الأتربة والدخان،
والأم تبحث عن حليبٍ لطفلها في زجاجة ماءٍ ملوثة.
رأيتُ طفلًا بالأمس، يركض بين الركام، يبحث عن دميته المحترقة.
قال لي بهدوءٍ موجع:
"هي الوحيدة اللي كانت عم تسمعني".
ورجل سبعيني كان يقرأ القرآن على ضوء نارٍ..
قال لي:
"كل يوم عم نتوضى بالدم، بس أهم إشي نقابل ربنا وإحنا طاهرين".
وفجأة سمعتُ صوتًا خافتًا من تحت ركام الطابق الثالث، صوت طفلةٍ تهمس:
" أنا هون.. إذا في حدا سامعني.. أنا مش خايفة.. بس بدي إمي".
لأجدني أقف وأصرخ بأعلى صوتي:
" إحنا سامعينك.. والله العظيم سامعينك"
آه لو كان الأمر بأيدينا..
كنا نفضنا الركام عنك بأيدينا ، وليس بكلماتنا.
"كنا حضناكي بدل ما تندهي عالفاضي"
لكن بينا وبينك ستارة من نار.. وحدود كافرة،
وسياسة كما تدركين
لا نستطيع الوصول إليك ، لا لأنك بعيدة،
لكن لأن الكف مقيد ومن يحكي مسجون.
صدقيني..نحن أيضًا تحت ركام، ركام اسمه العار.
هنا، تمر اللحظات كأنها دهور خانقة،
يُقتل فيها الجار، ويُدفن فيها الأب، ويُشيّع الأخ شهيدًا،
وتغيب فيها الضحكة في نفس الدهر.
ومع ذلك،
نرتق الشقوق في قلوبنا بخيط من الإرادة،
ونقول من تحت الركام:
"إحنا شعب ما بينكسر.. ومن بين الردم بنزرع أمل."
أتعلمون؟
كل شيءٍ هنا تعلم ألا ينهار.
حتى العصافير غيرت نغمتها،
وصارت تغرد بصوت الإنذار.
أما الأمل..
فقد صار يتخفى تحت الأنقاض،
ينام في حضن أمٍ فقدت أربعة من أولادها،
وتصر على صنع الفطار لهم كل صباح،
كأنهم ذاهبون إلى المدرسة.
كل ما نريده الآن،
هو أن تكتبوا عنا في الذاكرة.. لا في قوائم الإحصاء.
أن نظل في الحكاية المؤثرة، لا في ذيل نشرةٍ تنتهي بالموجز والطقس.
أن نُروى كما نحن: وجوهًا من نار وصمود،
لا أرقامًا تذوب في التقارير.
انقطع الاتصال..
صوت طائرة يقترب
اقترب أكثر،
اهتز الحائط،
سقط المصباح من فوق رأسي وانكسر الضوء،
وانكسر معه كل شيء.
سأحاول أن أنهي كلماتي بسرعة،
القلم ينزلق من يدي،
والورقة ترتجف كأنها تعرف المصير.
أطويها على عجل، و أضعها في جيب معطفي،
أرفع رأسي نحو السماء، من فتحة السقف المهدم،
وأهمس بصوتٍ مبحوح:
"لن أستطيع إرسال الرسالة..
إن وصلتكم هذه الرسالة،
فاعلموا أنني.. لم أنجُ.
فلاش أبيض مفاجئ يملأ البيت.
صوت انفجارٍ ضخم يقطع كلّ شيء.
ثم صمت.
بعد ثوانٍ من الغبار،
يُفتح باب المنزل المتهالك بركلةٍ عنيفة،
يظهر ظل طويل على الحائط،
جنود يدخلون ببطء،
بنادقهم موجهة،
وأمام كل سلاحٍ ضوءٌ أحمر يتحرك كأنه يبحث عن نبض.
أحدهم يرفع إصبعه نحو فمه ويهمس بالعبرية:
"تأكدوا أنه ميت."
الضوء الأحمر يستقر على رأسي
وأنا ممدد على الأرض ويداي ما تزالان تحتضنان صدري
والورقة في جيب معطفي تضيء للحظة..
قبل أن يلتهمها الظل.
ثم يرحلون..
لا كلمة، لا صوت،
سوى رائحة البارود،
وما تبقى من رسالة نهايتها رصاصة في الرأس.
كان معكم أحد الذين كانوا هنا..
من بين أنقاض بيتٍ في حي الشجاعية،
مساء يومٍ لا أذكر اسمه،
فالأسماء سقطت من دفاتر الذاكرة،
وبات الزمان بلا ملامح،
والتواريخ بلا مناسبات،
فقط الحرف..
هو الذي ظل ينهض،
كلما سقط جسدًا.. كتب.
إن وصلتكم هذه الرسالة.. فاعلموا أنني لم أنجُ.
_ وسيم عامر
تعليقات
إرسال تعليق