.... مازال🌿


 

 الكاتب_ الشاعر أ. ماهر اللطيف

🌿🌿🌿🌿🌿🌿🌿🌿🌿🌿

مازال للحياة بقية...


بقلم :ماهر اللطيف


تعالت الأصوات متلألئة ومصدعة من حناجر المتظاهرين يمنة ويسرة مطالبة بتنحية رأس السلطة والإطاحة بها درءا لكل مكروه آخر محتمل بعد أن بلغ السيل الزبى وتغلغلت الديكتاتورية في المجتمع وتفشت، وطفا الظلم على سطح مياه العدل والمساواة، وابتلعت الجهوية المقيتة والعنصرية صفو الوحدة والتضامن والتآزر ونحوها....


وكنت من بين هؤلاء، أصيح، أشجع، أهتف، أرقص، أخطب في من يقفون إلى جانبي لأحفزهم وأدفعهم نحو الانتفاضة والهيجان قبل أن ينصهر تجمعنا في تجمع الثورة والقانون والتأطير والتنظيم وتخطيط الهدف الموحد تحت راية واحدة وسنوها في مكان غير بعيد عن مكان نشاطنا الحالي.


كما كنت أتفحص وجوه الحاضرين و أجسادهم - خاصة منهم النساء اللاتي كن أكبر عدد من الرجال فعلا-، فكنت أرى الممكورة والممشوقة والخرعبة والعطبول والبضّة والعبقرة والهيفاء والغيداء والفرعاء والشموع والبهكنة والبهنانة، وغيرهن -....


كما كنت أصنف الأصوات الخارجة من الحلوق وأقارنها بأصوات الحيوانات - بما أني كنت متعدد الاختصاصات والهوايات كما نقول، أنهكتني البطالة وتلاعب بي القلق والفراغ والتفاهة إلى أن بت ألاحظ كل شيء ولا أقدم أي شيء -، فبلغ مسمعي زئير هذا الكهل وفحيح ذاك الشاب، ضغيب هذه الفتاة وشحيح ذاك المراهق، ضباح تلك المرأة وخوار صديقتها، صهيل أخرى ونهيق من تجاورني....


ومع هذا، فقد تحمست كثيرا - رغم أن صوتي كان عواء وأحيانا زمجرة- وساهمت في إنجاح هذه التظاهرة التاريخية - بالنسبة لكل المشاركين فيها، أو جلهم بأكثر دقة-، أحسست بالعرق والإعياء بعد هذا المجهود المضني، التعب والوهن، ارتخاء الجسد ووهن بعض عضلاته، لكنني لم أتراجع أو أستسلم، بل تماسكت وضاعفت من مجهوداتي من أجل هذه القضية الوطنية المفصلية.


وما زلت أردد مع الجمهور "ارحل، ارحل يا دكتاتور، شعبك غضب وها هو يثور" حتى شعرت بشيء ينسكب من أسفل جنبي الأيسر وألم شديد يجتاحني بغتة لم أشهد له مثيلا سابقا، فلمست المكان برقة وقد تصبب العرق بسرعة البرق وأحسست بارتفاع حرارة هذا الجسد المنهك أصلا، لألحظ أن دمائي تسيل سيلان مياه الأودية والغدران.


صحت عاليا طلبا للنجدة و الإسعاف - ويبدو أن صوتي لم يؤد الدور المطلوب منه بما أنه شح ولم يتجاوز الحلقوم - شعرت بالغثيان وبداية الإغماء، ولم أشعر بشيء وأنا أسقط على الناس قبل أن أفترش الأرض فاقدا للوعي وقد تجمهر حولي هؤلاء بعد أن اتصلوا بالإسعاف واختلقوا القصص و الحكايات طبعا وأصروا على صحتها وحضورهم تفاصيلها، وما إليه من الأكاذيب والإشاعات....


ولم أسترجع حياتي إلا بعد مدة لأجد نفسي محاطا بزمرة من أصحاب الميدعات البيضاء وهذه الآلات الطبية التي تحاصرني من كل جانب، وهذا الألم الشديد الذي ينال من جسدي العليل، ودموع أمي التي بللت يدي وهي تحمد الله وتشكره على سلامتي وتقول بصوتها الحنون الشجي:


- قم بني وارجع بيننا، فقد اشتقنا إليك كثيرا بعد هذه المدة


- (مستغربا، متحاملا على نفسي ومحاولا التغلب على حالتي) ما الذي يحصل هنا أماه؟ أين أنا ولماذا (ورجل طويل القامة - يبدو أنه رئيس هذا الفيلق الطبي- يأمرني بالصمت حفاظا على صحتي وجراحي) ما كل هذا الألم الذي يمزق جسدي؟


- (مقبلة يدي وجبيني ومقاطعة) احمد الله واشكره على كل حال ولا تفكر بشيء الآن، قم سالما وعد لنا أيها البطل...


لكن الطاقم الطبي أخرجها بسرعة من هذا المكان وأوصد الأبواب خلفها وشرع في إنقاذ حياتي حالما فقدت وعيي من جديد فجأة ودخلت في غيبوبة مطولة نسبيا مثل غيبوبتي الأولى - وقد أخبرني الجميع بعدها أني مكثت تسعة أيام في مرحلة أولى و يومين في مرحلة ثانية-...


وبعد أن تماثلت إلى الشفاء وشرعت في استرجاع صحتي وعافيتي - ومازلت على فراش المشفى بعد-، علمت أني تعرضت إلى عملية طعن بآلة حادة (سكين كبير الحجم) على مستوى الكبد الذي تضرر جزء منه، مما استوجب التدخل الجراحي الطبي الفوري لإصلاح ما يمكن إصلاحه، - وقد أشرفت على الموت أكثر من مرة أثناء إجراء العملية الجراحية - جراء محاولة سرقة هاتفي الجوال وبعض الدنانير التي كنت أحملها معي وقتها ساعة الحادثة في جيب سروالي البالي...


كما أخبروني أن الجاني مجهول الهوية - كالعادة- ولم يقع القبض عليه إلى حد الآن، ولم يُعثر أيضا على أداة الجريمة، ولم يشهد على هذه الجريمة أحد من الحضور - أو لم يشأ أن يشهد شاهد أو شهود بذلك-، لذلك وقع قيدها "ضد مجهول" وحُفظت القضية مبدئيا....


وهذا ما جعلني أستحضر حادثة مماثلة وقعت هنا لأحد سكان هذه المدينة منذ سنوات عديدة، حين وقع ضحية اعتداء وحشي سافر وغدر ماكر وطعن غير إنساني بسكين على مستوى الرقبة أودى بحياته على عين المكان، سُجِّل ضد مجهول وقتها رغم مجهودات وأبحاث أهله والسلط المعنية وغياب الشهود، إلا أن الحقيقة ظهرت منذ أشهر في إحدى سجون هذه الدولة حين اعترف الجاني بجرمه أكثر من مرة في أحلامه - وقد سُجن إثر اقترافه لجرم آخر مشابه لهذا- حين كان يصيح باستمرار ويسرد تفاصيل عملية القتل ويقول باكيا "لم أشأ قتل ابن عمي والله العظيم"، فيستفيق مذعورا ليجد جميع رواد هذه الزنزانة مسمري الأنظار نحوه دون حراك أو كلام - وقد أخبروا السجانين بذلك، وفُتح بحث في الغرض قبل أن يُفتح ملف القضية من جديد بعد بروز هذه المعطيات والاعترافات الخطيرة -


فالحق يعلو ولا يُعلى عليه مهما طال الزمن أو قصر، ولا بد للشمس أن تبزغ أشعتها بعد ظلام الليل وسكونه بما أنه لا تُوجد جريمة كاملة على وجه الأرض، ولا تفرح لمن أخفي شهادة أو آثر الصمت عن الكلام لأي سبب من الأسباب، فسيُسأل عنه حتما يوم الحساب ويُهان على ما أقدم عليه من جرم إخفاء لحقيقة كانت تغير الكثير بالنسبة للجاني والمتضرر وآلهما على حد السواء ....

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

(((( أبت الحقارةُ أن تفارِقَ أهلها. ))))

((((( قلت لأحلامي تعالي فتعالت. ))))

يا من تراقبني بصمت