الجثمان المتمرد
الأديب / محمد الصباغ / يكتب
قصة قصيرة I الجثمان المتمرد
كان الهواء العاصف من شدته ، يقتلع البشر من فوق الأرض ، َويلقيهم في نهر الموت ؛ هائمون بلا إرادة ، وبلا حركة ذاتية !! كأنهم " أسماك نافقة" يسيرها التيار الذي لا يقاوم ويأخذ مجراه بقوته ، ولا يُخْفّف من سرعته كثرة " النافقون " فوق سطح الماء ؛ بل كلما زاد عدد الموتي ؛ زادت سرعة حركة تيار الماء الدافق في مجري النهر .
وجد جثته هو تطفو ؛ مندفعة في تدفق ماء النهر ؛ ظاهرة لعينيه ؛ ومميزة بكونها كانت جثته هو التي ألفها طوال سنوات سنين عمره الماضية وقد خبر وجود الأعضاء في أماكنها كما كانت موجودة في نفس مواضعها من جسده ؛ فلم يغادر القلب مكانه وقد ثبت عقله منبثا خلال كل الجسد من منبت الشعر في رأسه وحتي الظفر المتكسر إلا قليلا في قدمه . ووجد روحه تغوص ولا تستطيع أن تلاحق سرعة جريان الماء بجسده ؛ فلما خشي علي روحه من الغرق ؛ ألقي بطوق نجاة لإنقاذ روحه ، ولكن لحظات إنفصال الروح عن جسده وتدافع كلا منهما منفصلا ؛ كانت قد جعلت جسده الميت يموت أكثر ؛ حتي أنه قد أصبح جسد ميت استسلم تماماً للتيار !! كأنه كان يرغب الموت فمات ؛ وكأنه كان سعيداً في الموت ؛ وشرع هو من علي ضفة النهر ينادي نفسه :
"يا أيها السعيد في الموت ؛ ربما كان اللا موت أسعد " .
نادي وكرر النداء والجثمان المتدفق مع الماء مازال في مدي الرؤية ؛ ولكنه كان قد فقد القدرة علي سماع صوت نفسه في الموت الذي صار إليه ؛ والذي يدفع بالقصور الذاتي " للميت الحي " في أن يمضي ويطفو علي السطح الظاهر في تيار الماء .
وكأنه كان نموذجا متكرراً للميت الحي والحي الميت الذي ينشط في الموت ؛ بأكثر مما كان ينشط في الحياة .
عندما أخرجوا الجثمان أولئك السلطويون المكلفون بمراقبة الجثامين في النهر وحركة الجثامين في النهر ؛ كانت المياه قد أثقلته ؛ وخوفا من أن ينزلق الجثمان مرة أخري إلي الماء ؛ فقد أوثقوه بحبال شديدة ووضع في " كفن " يقاوم المياه ؛ لكي يُخفوا الحبال التي أوثقوه بها . ولكنه إنسل من الحبال ولم ينزل الماء كما توقعوا ؛ بل صار يطير في الهواء . ومن فورهم فقد شرعوا يجرون بأقصي ما يمكنهم ؛ علهم يلتقطوه عندما يمل من الطيران ، ويقرر من تلقاء نفسه أن يهبط إلي الأرض ليدفن ؛ بدلا من أن يظل ميتا في الهواء .
لما أعياهم انتظار هبوط الجثمان الطائر ؛ قرروا أن يسقطوه هم ؛ وقد تجمعوا في صفوف من حملة البنادق الآلية سريعة الطلقات ، يقذفون رصاصها إلي السماء ؛ علها تقتل " الجثمان الطائر " الذي قرر أن يسكن السماء ؛ التي تعلوهم مباشرة وتظلل وجودهم ؛ ليمثل ظاهرة للتمرد علي المألوف وعلي الطاعة وعلي النظام .
كان الجثمان في السماء من فوقهم لا مبالياً ، يتحرك بحريته في المدي الواسع ؛ الذي أصبح يمتلك المروق في ثناياه بقدرة الميت الطائر الحي .
وعندما فشلت عملية قتله بالرصاص الكثيف المقذوف من أسفل إلي أعلي ؛ وعبر محاولات القنص الفردي ؛ لأشد القناصين إحترافا ؛ فقد أدركوا أنه لن يقتل "الميت الحي" إلا الحيلة ؛ وأن الحيلة الأجدي هي تسميم الهواء ؛ وقد شرعوا بضخ مالديهم من مخزون الغاز السام . وقد أصابت حيلتهم وقتل "الميت الحي " الذي نسي أن يصطحب معه في موته القناع الواقي من سموم الهواء ؛ وهكذا صار ما قتل الميت الحي إلا النسيان .
لم يبال السلطويون بمن مات في عملية قتل الميت ؛ منمن تسمموا بالغازات ، فقد كان جل همهم هو قتل الميت المتمرد واسقاط الجثمان العايش في السماء .
محمد الصباغ
تعليقات
إرسال تعليق