مقبرة الذكريات
الأديب / محمد الصباغ / يكتب
قصة قصيرة I مقبرة الذكريات
1
اعتاد أن يفعل ؛ وصار هذا من أخص عاداته ومن لازم حياته التي لا يمكنه أن يحيا إلا بها : بعد أن يمضي يومه ؛ كان يضع اليوم الميت في كفن الذكري ؛ مجاوراً له بجوار نظرائه من الأيام الميتة في مقبرة حياته ؛ التي صار لازماً عليه أن يوسعها كل يوم لكي تستوعب كل أيامه الميته ؛ ثم يذهب إلي فراشه ؛ ليموت هو ما يتيسر له من الموت ؛ ودون ان يستيقظ ولو مرة واحدة ليذهب ليبول أو ليتناول جرعة من الماء ؛ وخصوصا بعدما أصابه مرض " السكري " فلم يغير المرض أي من عاداته ؛ وحافظ هو علي موته أثناء نومه .
وذات مساء متأخر ؛ وأثناء موته في النوم ؛ وجد نفسه وكأنه قد استيقظ ولم يكن قد استيقظ ؛ بل أتاه " الهاتف " الموحي زائراً قاصداً ؛ راغباً في أن يوحي إليه ؛ كان في حالة من التداخل ما بين اليقظة من النوم وما بين الإفاقة من الموت وما بين التوه في الزمان والضياع في المكان ؛ وقد غالبه مزيد من جرعة النوم فنام ؛ وعندما استيقظ من نومه ومن موته ؛ فقد كان ناسياً ما مر به من تجربة الإستيقاظ من الموت ؛ من النوم أثناء النوم ومن الإستيقاظ من الموت أثناء الموت .
لأيام كثيرة كان "الهاتف" ؛ يقف فوق رأسه وهو نائم ويوقظ عقله نصف إفاقة ويبدأ في مهاتفته والوحي إليه ؛ عن غير ما يعرف من أشياء ، وعلي غير ما يحس إزاء ذات الأشياء ؛ وعن غير ما يحب أن يكون شعوره دائما عن ذات تلك الأشياء ؛ التي كان سابقا قد عاشها وسابقا كان قد دفنها في مقبرة الذكريات .
وكان " سرسوب " الهاتف يتدفق وينخفض في التدفق ؛ بلا رابط أو قاعدة أو اعتياد ، وكان يتبقي من هذه المهاتفات بعض منها في وعيه وبعض ما زرعه "الهاتف" لينمو بعد ذلك ويكون مادة للتهاتف فيما بعد .
2
كان بعض ما زرعه "الهاتف " في وعيه وفي عقله ؛ أن الزمن قد انتهي ولا وقت للرجوع بعد أن " انتهي الزمن " إلي بداية الرحلة ؛ وأنه حتماً أن صاحب الجسد النائم سوف يسقط في الفراغ النهائي ؛ وذات مرة من مرات التهاتف المتلاحقة في توالي الأيام ؛ فقد ضاعف "الهاتف" من قوة صوته وهو يخاطب نصف النائم ؛ نصف الواعي لما يدور :
" أنت تسير بالقصور الذاتي منذ أتيت إلي الوجود ؛ ولو كنت توقفت لسحقت روحك الأقدام الزاحفة من خلفك والتي تدفعها وتدفع زحفها من الخلف أرواح أخري مندفعة من الوجود إلي العدم ، ومن العدم للوجود ؛ في زحف بلا رفع لقدم عن السطح الذي يتحرك الجميع عليه ؛ إلي مستقر الحركة في الأمام المجهول " .
3
كان "الهاتف" يواصل " تهاتفه " مع النائم ؛ نصف الميت ونصف الواعي ؛ وغير النائم ؛ فقد أصبح علي حالة الوجود المائع والوجود المتلاشي ؛ وقد مضي الهاتف في زياراته للمختار المقصود ؛ دون اهتمام بعدم قبوله التلقي بالوحي وبالرسالة التي يُجبره علي تلقيها وفي نفس اللحظة كان " الهاتف" مجبراً للمتلقي المجبور ؛ ومحدداً له ما يلتزم به في سيره الأبدي :
" لا تلتفت إلي الوراء ، فإن الأرواح التي خلفك والوجوه المختبئة خلف وداخل هذه الأرواح ؛ ستكون أكثر وحشية وبشاعة من الفراغ الأبدي والهوة السحيقة التي تبتلع كل شيء والتي هي تتخلق من ذاتها في الخلف ؛ إذا نظرت إلي الخلف ؛ وهي أيضا قائمة في الأمام ، إذا واصلت السير إلي الأمام ، وليكن عزاءك أنه قد يلوح في النهاية المحتومة ؛ أنه طوبي لمن ساروا في الحياة يعانون الوحدة ؛ وطوبي للذين تألموا في الوجود بأكثر مما سعدوا ؛ وطوبي لمن عاشوا الحياة دون معاركة الألم ؛ فقد رضوا به عن صبر وتضحية . وسواء أسرعت الخطي الزاحفة أو أبطئت ؛ طرت أو زحفت : فأنت سائر إلي هناك ؛ صائر حيث ستكون بلا كينونة ؛ ذائب في الفراغ " .
4
كان "الشبح المهاتف" يعاوده يوما بعد يوم ؛ في وجود يكاد يتجسد وقد أصبح له صوت وله رائحة ؛ أصبح له وجود مصاحب لتهاتفه ؛ ولا يدري كيف وردت إلي خاطره الفكرة الإنتقامية ؟! وكيف أصبحت ملحة إلي هذا الحد ؛ ولم يدري إذا كانت الفكرة مما أوحي به "الهاتف الشبح" نفسه ؛ أم أنها نبتت من ذاته هو ؛ بعد أن أصبح يأتيه "الهاتف الآمر" المتحكم في أحلامه والمسيطر علي فترة نومه وفيما بعد صحوه : وقد قرر أن يطلق الرصاص علي الشبح ليري ماذا سيصنع "الشبح المهاتف" ؟! .
5
لم يكن الشبح ؛ في مرات معاودته للمتلقي معاديا ؛ هو فقط كان مسيطراً متحكماً ؛ وربما في مرات من مرات التجسد ؛ كان يري وكأن الشبح هو هو ، وفي هذه الحالة ؛ لم يكن في ظهور الشبح وتجسده ؛ يجد من ظهوره وتجسده إنزعاجا وكان عند ذلك يشعر بالزهو أن الهاتف الشبح قد اختاره هو ؛ وأنه يرسم له ؛ صورة فوق الوجود الذي يعيشه ؛ وعندما وجد الشبح في أقوي لحظات تكثفه وظهوره وأن رائحته الإعتيادية لحظة وجوده وتهاتفه حاضرة ؛ سحب المسدس الخاص به والذي كان يضعه أثناء النوم تحت وسادته وفي متناول الحركة السريعة من يده ، سحب المسدس بسرعة وأطلق الرصاص علي الشبح ؛ ولما أفاق مندهشا من صوت طلقة الرصاص ومن رائحة احتراق الجلد والعظم البشري ؛ وبعد أن استيقظ تماما وجد إلي جواره جثة تلفظ أنفاسها الأخيرة وفي حالة ضعف لا تقوي علي شيء ؛ حتي طلب المساعدة : وجد بعد لحظة استيعاب ؛ أن الرصاصة قد أودت بحياة صديقه في السكن والذي يزامله في نفس وحدته العسكرية والذي من آن لآخر تختلف فترات عملهما ونوبات حضورهما في الخدمة .
6
في أيام التحقيق الذي أعقب قتله الخطأ لصاحبه في السكن ؛ وأثناء المحاكمة العسكرية فقد تخلص من زيارات وإلحاح الشبح ؛ ولم يجد هو تفسيراً لقتله لصاحبه واختفاء الشبح ؛ وبدأ يشك في ارتباط ما بين صديقه وصاحبه في السكن وبين ظهور الشبح ومهاتفته له ، وقد دفعه هذا إلي جنون مؤقت ؛ أراحه من تماديه فيه ؛ أنه قد تخلص من إلحاح الشبح الذي يأتيه أثناء : نصف نومه ونصف وعيه ومن خلال سرسوب التهاتف الذي كان يأتيه .
7
بعدما حصل علي التسريح من الخدمة ؛ لشك المحققين في قواه العقلية ؛ وبعدما حصل علي الحكم المخفف ؛ استناداً للدفع بإضطرابه العصبي واحتمالات جنونه ؛ فقد صار عليه أن يمضي عقوبة الحبس المريح ؛ وفي ليلة اليوم الأخير في محبسه المريح ؛ فقد عاوده الشبح المهاتف مرة أخري .
8
بعدما خرج من السجن ؛ غير مكان السكني ، لآخر ؛ هروبا من ذكريات الشبح ومن تذكر أنه قد قتل صديقه ؛ ومن تداعيات تهاتف الشبح معه ؛ وأن قواه العقلية وسيطرته علي نفسه وتصرفاته ؛ أصبحت محل شك منه هو نفسه . وفي السكن الجديد فقد عاود " الشبح المهاتف " ظهوره وحضوره ؛ ولم يكن في ظهوره مشكلة ؛ بعد أن داوم التردد علي طبيب نفسي ؛ وقد أصبحت المشكلة الجديدة بالنسبة له ؛ ليست في ظهور الشبح أو إختفائه ؛ بفعل العقاقير التي أصبح يداوم عليها ، ولكن أصبحت المشكلة فيما كان يقوله الشبح وأصبح هو يحتاج إلي سماعه ؛ بل أنه أصبح يعتمد عليه ؛ في فهمه للكثير مما أصبح يحيط به من أحداث الحياة وأصبحت المشكلة الملحة والتي لم ينجح الطبيب المعالج في إيجاد حلا لها ؛ أن صاحب الشبح ؛ قد عاوده التفكير في أن يتخلص من الشبح ومن إلحاحه ومن سيطرته ؛ علي فترات اليقظة في نومه .
محمد الصباغ
تعليقات
إرسال تعليق