حلوى " الكراميل"
الأديبة/ محرزية القريتلي قدور/ تكتب
حلوى " الكراميل"
عندما مرت بعد مضي سنين طويلة، بذلك الزقاق القريب من بطحاء الكنيسة و ما جاورها من شقق و فنادق ، يسكنها قديما، المسيحيون :(فرنسيون و مالطيون) ، برزت الى مخيلتها صورة ظلت عالقة بذاكرتها.
طفلة التسع سنوات ، في القسم الثالث من التعليم الابتدائي، و أول سنة تدرس فيها اللغة الفرنسية..
كانت تمر من ذلك الزقاق يوميا عند ذهابها أو ايابها من المنزل الى المدرسة .
و كانت تحب المرور منه لنظافته و هدوئه و أناقة رواده من الأجانب عرفوا باسم " الروامع "
في ذلك الممر ، كانت كثيرا ما تلتقي فيه برجل(رومي)، ربما كان مالطيا أو فرنسيا.
كهل طويل القامة، أبيض البشرة، ذو وجه صبوح، و عينان زرقاوان ..
يلبس بنطلونا بونيا فوقه " جاكتة " رمادية ، و يضع على رأسه قبعة سوداء من نوع " البيري" ، كانت موضة ذلك العصر .
في ذلك الزمن ، كان للأجانب مكانة مرموقة.
كان يبدو لها و لكل الأطفال و ربما أغلبية المجتمع في ذلك العهد أن هذا الرجل و أمثاله هم من النبلاء. و أنهم يعيشون في أرغد عيش.
و كانت تشعر تجاهه بالهيبة و الوقار .
كانت كلما التقت به حيته باحترام باللغة الفرنسية التي بدأت تتعلمها ، قائلة " طاب يومك سيدي .." (Bonjour Monsieur ) .. و كلها زهو لتمكنها من هذه اللغة الجديدة رغم صغر سنها.
فكان يرد التحية بابتسامة تشعرها بكثير من الطيبة و الحنان.
ثم يدخل يده الى جيبه و يخرج منه قطعة من الحلوى نوع " كراميل " ملفوفة بورق جميل، و يعطيها إياها.
تأخذها منه و تشكره بحرارة بلغته الفرنسية "merci Monsieur .. شكرا يا سيدي ".
كانت تسر بها كثيرا ، بل كانت تكاد تطير فرحا رغم أن والدها كان يغدق عليها و على إخوتها بكثير من أنواع الحلوى( حلوى اللوبيا و الشامية و النوڨا ...).
الا أن تلك الحلوى ( كراميل ) التي كان يهديها لها ذلك المسيحي ، كان لها وقع خاص.
كانت تحملها معها في غبطة و سرور الى حين وصولها الى المنزل ، فتقدمها لوالدتها مبتهجة و تروي لها كيف أنها تحصلت عليها بفضل حذقها للغة الفرنسية .
و في إحدى المرات وهي تقدم قطعة الحلوى الى امها كعادتها، قالت لها والدتها بكل لطف " يا صغيرتي .. في المرة القادمة ، لا تأخذي من ذلك الرجل هذه الحلوى او أي شيء آخر .. قولي له " بونجور" و واصلي طريقك ، لا أريدك ان تتوقفي لأي كان. "
سألت امها عن السبب
فأجابتها بابتسامة لم تفهم معناها: " ذلك الرجل مصاب بداء " الصلع " ، لذلك كان يغطي رأسه بالقبعة .. و قبل أن يعطيك تلك الحلوى، كان يقوم بدعكها عليه و أخشى أن تصيبك عدوى ذلك المرض فيتساقط شعرك ..."
و انطلت عليها الحيلة .. لم يكن بوسعها وهي في تلك السن أن تفهم ما تقصده أمها
بل لم تتفطن حتى لوجود الورق الذي يلف قطعة.
الحلوى .
و حدث ان التقت به مرات عديدة . و كانت في كل مرة تحييه كعادتها و لكن بانكماش شديد و ما ان تلاحظ حركة يده نحو جيبه حتى تقول له في استنكار شديد " لا.. لا.. يا سيدي Non..non. Monsieur "
ثم تسرع في خطاها لتبتعد عنه اكثر ما يمكن...
و مرت الأعوام..
و ظلت هذه الذكرى عالقة بذهنها دون أن تدرك المقصود.
و فهمت في الأخير ما كانت ترمي اليه والدتها التي خشيت عليها من ذلك الغريب .
ماذا لو كان قصده غير شريف و أنه كان يستدرج طفلتها الصغيرة بقطعة الحلوى.
لم يكن بوسعها ان تشرح لابنتها ما يمكن ان يتهددها من سوء .
فخطرت لها تلك الحيلة التي استطاعت بواسطتها أن تجنبها كل الشبهات.
محرزية القريتلي قدور .
تعليقات
إرسال تعليق