الانتظار على حافة الوطن








الأديب/ أحمد سليمان أبكر  / يكتب 

 قصة قصيرة:

***

الانتظار على حافة الوطن  

يقسمون الرغيفة نصفين، نصف للغداء ونصف للعشاء، يلامسون بشفاهم طرف أكواب الماء حتى تظل ملأى ثلاثة أيام أو أكثر، لم تعد غرفهم تسع شيئًا من وسائل الراحة أو الرفاه ، لأن بثمن كل وسيلة من تلك الوسائل يشترون الضروريات من خبز وماء وبالكاد حليب للصغار، لم يعد الوطن هو الوطن، الكل يهم بالرحيل من محرقة الحصار، الغلاء، الشقاء، البطش والقمع اللامتناهي. 

مسئول تأشيرات الخروج،مصارع متقاعد التزم النضال الوطني المزعوم بعد أن فشل في تتويج حياته بتأسيس نادي رياضي، لأن عشاق العراك منتظرون على حافة الوطن، كغيرهم من الحالمين الذين يمنون أنفسهم بغدٍ أفضل خارج الأسوار..لم يترك القائمون على آلة البطش الفرصة تفوتهم، فالرجل مشهور ومقهور، مجرد النظر إليه يزرع الرعب في القلوب، وضعوه في بوابة الهجرة، فهو أفضل من يتصدى لضربات أماني وأحلام الفارين.

تناول إفطاره الدسم، تمدد على الأريكة ناخرًا بأنفاسه سقف المكتب، غير عابئ بالكتل البشرية القابعة في الممر المؤدي إلى مكتبه،منهم من وصل باكرا هو إلى مقربة باب المكتب، والباقون تمددوا في تسلسل عشوائي حتى باحة البناية حيث لم يعد معروفًا من وصل قبل الآخر. مجموعة من الفتيات وضعن أيديهن وراء ظهورهن مستندات إلى الجدار، ينظرن في ثبات دائب إلى امرأة أربعينية تحاول تسكيت صغيرها الذي ملّ من حالة الزحام الخانقة وأخذ زعيقه يتحول إلى موسيقى تصويرية لوجوم قابعي المكان. مجموعة من الفتيان يسندون أقفيتهم على الجدار تارة وهم وقوف ثم يقعدون تارة  نصف قعدة من وقت لآخر مريحين أقدامهم، بينهم شاب متأنق، عابق بعطور متضاربة، منذ وصوله يحاول جذب انتباه أقصى يمين الفتيات، لم تتجاوب مع نظراته الغاوية ولا سجلت وجوده أو حتى رمقت جهته مرة ، بل وضعت يديها وراء ظهرها مستندة إلى الجدار كرفيقاتها، وهي تنظر حيث ينظرن. 

مثلما في العالم أنواع من المهضومين كذلك هنالك أنواع من ثقلاء الدم،بصرف النظر عن تأنقه فهو من أولئك الثقلاء، ضايقه زعيق الطفل، لكن ضيقه الأساسي نابع من تجاهل الفتاة له، وفي سبيل التغير، ودون أي اهتمام لما يجري حوله استولى على مكان الشيخ الستيني الذي تفضل به لأم الطفل، غير أن رجلًا خمسينيًا صوب عليه نظرة توبيخ مباشرة، فلما تجاهلها الأخير اندفع الخمسيني وأمسك به من تلابيبه دفعًا به إلى حيث كان، وهو يرمقه  بنظرة شزراء عززتها نظرات الآخرين. 

نخوة الشيخ الستيني نحو أم الطفل، وهزة الخمسيني للشاب الأخرق، أحدثتا تغيرًا في المكان،كأن غيمة الانتظار انزاحت مؤقتًا وأبرقت بين المنتظرين كل في حلمه لغة واحدة، فالتفت العيون بارتياح لأول مرة منذ ساعات. 

***

بقلم الكاتب: أحمد سليمان أبكر

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

(((( أبت الحقارةُ أن تفارِقَ أهلها. ))))

يا من تراقبني بصمت

((((( قلت لأحلامي تعالي فتعالت. ))))