حدث ليلة الكريسماس.







الأديب  / سمير المطيعي / يكتب 

 قصة قصيرة

حدث ليلة الكريسماس.

سمير المطيعي

 الليلة هي ليلة الكريسماس، جموع غفيرة وكتل بشرية تملأ الشوارع وأمام المحال تجري هنا وهناك للحاق بالمتاجر لشراء ما يحتاجونه من هدايا عيد الميلاد ، ونحن في منزل أقدمنا وجوداً في أمريكا " بالمناسبة كان من عادتنا أن القادم من مصر حديثاً يسأل وينصت الي نصائح السابقين او المهاجرون القدامي ويأخذ برأيهم ان اراد  "

       جلس ثلاثتنا في حجرة المعيشة في حالة استرخاء تام فكم كان انتظارنا اِلي هذا اليوم ! لننال قسطاً من الراحة ، تناولنا وجبة سريعة وشربنا قهوتنا الساخنة ، وقبل منتصف الليل بقليل ، لا أتذكر كيف بدأ الحديث ولماذا قادنا اِلي النهوض فجأة والقيام برحلة الآن – سالنا أنفسنا – اِننا في منتصف الليل تقريباً – هل تقول الآن ، الرد علي سؤالنا لانفسنا نعم الآن ونضحك عقب هذا السؤال ثم جاء السؤال منا والينا مرة أخري الي أين سنذهب وكيف ؟؟ السيارة مركونة اسفل العمارة – مصرح بهذا ايام الأعياد – فقلت السيارة تقريباً بلا فرامل ومنتظر بعد العيد او راس السنة لتغيير الفرامل 

هب احدنا دعونا ننطلق برحلة... قاد التفكير لاقدمنا برحلة اِلي واشنطن العاصمة ! نعم ؟ ! سألت متعجباً  4-5 ساعات نقود سيارة بلا فرامل وبعد منتصف الليل !! اجننت جاء الرد بضحكات يلا بينا حلاوتها في جنانها ، قرار سريع بلا أدني تفكير ، فوضع كل منا سترته الشتوية علي كتفه وغادرنا.

         وما هي اِلا دقائق وكنا داخل السيارة التي بلا فرامل تقريباً ومع اول ناصية في الطريق الطويل  بدأ الشعور بالتوتر الممزوج باسئلة وقلق وخوف ... السائق كان اقدمنا .. الاجابة ولا يهمك خليها علي الله .. امامنا قرابة 400 ميل في طريق هادئ جدا خالي من السيارات ماعدا هؤلاء السائقين السكاري العائدين من البارات والحفلات الراقصة ، بالطبع ما اخطرهم ،  بدأنا بالشعور بالقشعريرة رغم دفء السيارة بالداخل ، خوف ممزوج بعصبية وقلق مدفون في اعماقنا مما أزاد الرعشة في ابداننا والعجيب الكل يضحك.

       التزمنا الحارة الاقصي يمين الاقل سرعة تحسباً لاي مفاجئات ، بين الحين والآخر ينعس أحدنا ويستيقظ علي ذلك الصوت الشبيه بعِرسَة او جرُو صغير موجود اسفل عجلات السيارة  ثم نستسلم للنعاس الغير الهادئ مرة اخري 

وقفنا مرة او اكثر للتزود بالقهوة ووقود للسيارة و مع بزوغ نور الشمس كنا امام البيت الابيض

نريد فطوراً فنحن نشرب طيلة الطريق منبهات فقط ولم نأكل اِلا شطائر سريعة وسكريات لا تغني ولا تشبع 

    نلف بالسيارة حول المدينة من شارع الي ميدان الي حارة أملاً في العثور علي اية مطعم وباءت المحاولات كلها بالفشل ، فالشوارع والحارات كلها ملتحفة بالصمت ولا نري سيارة ولا مطعم ولا حتي كوفي شوب في المنطقة او الشوارع المحيطة بالبيت الابيض التي عادة ما تكون مزدحمة بآلاف الزائرين والسياح والسكان حتي الحدائق الأمامية للبيت الأبيض التي لا تخلو ابداً من المتسكعين والمتشردين وبعض المعترضين و المعتصمين والمتظاهرين خلت اليوم من البشر وكأن الأرض قد انشقت وابتلعتهم  جميعاً، دورة او اكثر يمينا ويساراً ومازلنا نبحث عن اي طعام في محيط اكبر مكان سياحي في امريكا ، صاح احدنا لصديقنا السائق هدئ السرعة،  هل رايت تلك الفتاة الواقفة هناك ؟ نعم ! ما هذا وماذا تفعل ؟ انها بمفردها رافعة يافطة بيضاء كبيرة .. نعم أراها رد احدنا .. ماذا تفعل بمفردها امام سور البيت الابيض ... انها ترفع لافتة لأعلي لعل احداً يراها ويقرأها.. اتجهنا واقتربنا بالسيارة الي ان وصلنا بجوارها ...فتاة امريكية بيضاء بارعة الجمال ـ ترتدي ملابس شتوية ثقيلة وعلي راسها غطاء صوفي مشغول بالتريكو بخيوط انثوية ملونة هادئة ، الغطاء يغطي شعرها واذنيها وكوفية تغطي انفها ورقبتها وتتدلي علي صدرها لتغطي جاكت طويل وبنطال جينس ثقيل وحذاء للركبة ... ، وما ان رأت سيارتنا فوقفت امامنا  ثم رفعت اللافتة علي بعد خطوات من ابصارنا كما لو كانت في انتظار اي من البشر ليسمع ويقرأ مطالبها .. لافتة بيضاء كبيرة علي الورق المقوي ، مكتوب عليها بالخط الجميل كلمتان فقط ، نعم جميلة واقفة منذ الساعات الاولي في صبا يوم عيد تحمل هذه اللافتة تطالب بكلمتين اثنتين .. كلمتان مكتوبتان باللون الاحمر وكل حرف من الحروف تسيل اسفلة بقع وخيوط حمراء من نفس اللون .. والخلفية كلها بقع حمراء مختلفة الدرجات .

      صباح الخير .. خفضت يديها وردت كما لو كانت تريد ان تستريح قليلا و بابتسامة انثوية جميلة اجابتنا صباح النور .. سألنا الجميلة سؤال مشروع في مثل هذه الحالة ، لماذا انت هاهنا ؟ وما قصة هذه اللافتة ؟ انا هنا منذ بداية الحرب – حرب الخليج الاولي – وخطيبي هناك يحارب . وانا ضد الحرب . نعم انا ضد الحروب . هذا مبدئي لن اتراجع عنه . وهذه اللافتة تعبر عن مشاعري، انا لا اريد ان تكون بلادي سبباً أو شريكاً  في قتل الابرياء ثانيا ومن هنا أنا أطالب بعودة كل القوات الأمريكية وكل الجنود ومعهم خطيبي المجند هناك ، أريد عودة كل الشباب وهو معهم ، من هنا أنا اعلن للعالم بانني احب هذا الشاب الذي يحارب هناك  ومنتظرة هنا الي ان يعود... فكتبت هاتين الكلمتين اوقفوا الحروب ... قصدت اوقفوا الموت 

     سلمنا عليها ودعونا لها بالتوفيق وتمنينا لو كان في استطاعتنا ان نقدم لها ولو كوباً من القهوة الساخنة في هذا الجو القارس البرودة.

       شكرتنا ... علي جميل عباراتنا وقالت هذا يكفي ان شباب مثلكم وقفوا ليستمعوا الي رأيي واعتراضي علي الحرب وانطلقنا بسيارتنا بعيداً 

        فقدنا الأمل في وجبة افطار ولم نبرح اماكننا بالسيارة وانطلقنا ضاحكين في طريق العودة ، واخذنا نطلق النكات علي انفسنا ، يكفينا أننا رأينا أسوار البيت الأبيض ، ثبتنا عيوننا علي الطريق الذي كان مازال خاوياً من السيارات ، ضاغطين بكل عصبيه دون أن ندري علي اسناننا خوفاً من خيانة  الفرامل المتهالكة

فمازالت السيارة امامها ساعات علي الوصول الي المنزل،  ومع درجات الحرارة المنخفضة جداً – أصبح الطريق شديد الخطورة حيث تحول ندي الشبورة الي طبقة زجاجية شفافة ملساء تراها امامك كمرآة علي طول الطريق هذه الطبقة في الواقع تنتظر منا اقل ضغطة علي الفرامل فتكون كفيلة بدوران السيارة او انقلابها لا سمح الله.

     وصلنا بحمد الله الي المنزل بعد ظهر يوم الكريسماس ، نعاني من صفير الاحتكاك طيلة 10 ساعات او اكثر حيث قطعنا قرابة 1000 ميل  او 1600 كم تقريبا ما بين السفر والبحث عن افطار ، وكالمرضي او السكاري خرجنا من السيارة ووقفنا علي الرصيف في حالة من الاِعياء والصداع ممسكين رؤوسنا او سادين آذاننا من جراء صرخات احتكاك الفرامل طوال الطريق 

ينظر كل منا للآخر بعد ان وصلنا للمسكن ، ضحكنا ، جهزنا الغذاء او لنقل العشاء واكلنا وعيوننا شبه مغلقة من التعب والارهاق ، ضحكنا  وضحكنا،  وخلدنا لنوم كاطفال  

      وفي صباح اليوم التالي وبينما نحضر للفطور سألنا أنفسنا ، هل كانت رحلة جميلة حقا؟ نعم كانت ... لماذا ؟ لا لم تكن رحلة ، لقد كانت مغامرة . نريد التغيير  قالها احدنا  واستطرد قائلا أردنا ان نخرج للتغيير حتي وان كانت في رحلة خطرة بسيارة بلا فرامل.نعم نحن رأينا  اسوار البيت الابيض فقط  ولم نري الرئيس ولا المتاحف ولكن ، والحمد لله عدنا سالمين.

     اما انا فاحتفظت برأيي لنفسي ، لقد رأيت حسناءاً فائقة الجمال تؤمن بقضية ، واقفة بمفردها وتقول للعالم ولأعلي سلطة في بلادها ، اوقفوا الحروب أوقفوا نزيف الدماء ، ليعود الشباب ، ويعود حبيبي .اِشهد ياعالم  اشهدوا ياناس ،انا منتظرة في هذا الصقيع وواقفة اطالب بوقف نزيف الدم .. اشهد ياعالم اشهدوا ياناس انني احب حبيبي وسانتظره هنا الي ان يعود

رحلة بلا فرامل ولكنها علمتني .. نعم علمتني كلمة – لا – للدماء.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

(((( أبت الحقارةُ أن تفارِقَ أهلها. ))))

يا من تراقبني بصمت

((((( قلت لأحلامي تعالي فتعالت. ))))