معاناة







الأديبة/ حكيمة مكيسي/ تكتب

 معاناة 


في بيت متواضع يملؤه الحب و الوئام، كانت تعيش نجلاء مع والدتها السيدة وفاء و أختها           و أخيها. رب الأسرة متوفي منذ سنوات، لقي حتفه في حادثة سير.

نجلاء شابة جميلة الشكل و الطباع، تشمل أمها و إخوتها برعايتها الحنونة. تعمل كمشرفة متفانية  بروض أطفال. تحيطهم باهتمام وافر و تتفنن في صنع حلويات منزلية لهم  بكل نشاط و سعادة. 

ما كان يحز في نفس أمها  هو عدم توفقها في حياة زوجية مستقرة. كانت ترفض كل شخص يتقدم لها لا تتوفر فيه مواصفات الزوج المناسب لها،  كانت مكتفية بحياتها البسيطة في كنف أسرتها. 

في أحد الصباحات، كان من المقرر أن تنظم حفلة عيد ميلاد أحد الصبية في الروض. رافق أب الطفل صديقه المهندس رياض ليشاركه  فرحته بهذه المناسبة.

منذ الوهلة الأولى كان الإعجاب متبادلا بينه 

و بين نجلاء، و لم يهدأ له بال إلا و استسمحها في إمكانية أخذ رقم هاتفها. 

قضى الجميع أوقاتا ممتعة بالحفلة، و عادت هي لمنزلها لا تسعها الفرحة بهذا اللقاء.

في نفس المساء، هاتفها و الخوف يخالجه، هل   ستجيب على مكالمته. و جاء ردها سريعا،  تجاذبا أطراف الحديث و صارحها باستلطافه لها و هي كذلك. استئذنها بكل احترام هل بإمكانه زيارة عائلتها بصحبة والديه حتى يتسنى له خطبتها. 

فرح أبوه فرحا لا نظير له بهذه الخطوة التى 

قدم عليها  بعد طول انتظار أما والدته فلم تبارك في الأول هذا الارتباط. وجدت أن مستوى عيش عائلة نجلاء لا يلائم عائلتها. 

بعد عدة لقاءات تعرفا فيها عن بعضهما أكثر 

و بعد الترتيبات الأولية  تم الزواج في أجواء جميلة و حافلة بالبهجة. كان رياض قد اكترى شقة أنيقة و فرشاها على ذوقهما. 

مرت الشهور الأولى هادئة لا يكدر صفوها خصام و لا سوء تفاهم.

في أحد الأيام عاد رياض لمنزل والديه ليأخذ بعض أغراضه من غرفته و هو خارج اصطدم بوالده الذي انتبه بفضل حدسه الأبوي أن ابنه رجع لتعاطي المخدرات. جن جنونه و عاتبه عتابا شديدا و ذكره بالمعاناة التي تكبدتها كل العائلة و بالمبالغ الباهظة التي صرفت من أجل استرداد عافيته و تخلصه من تلك السموم .

رفع رياض صوته على والده الذي لم يتحمل ردة الفعل هذه، أصيب بنوبة قلبية حادة لفظ أنفاسه الأخيرة على إثرها.

لم يتقبل رياض ما حدث بسببه، انهارت أعصابه، و بعد مراسم الدفن، ترك المنزل رغم توسلات نجلاء المريرة و استجدائها عطفه، لم تستوعب تصرفه المفاجئ. كيف يتخلى عنها  وهي في آخر شهر من حملها. 

تحطمت معنوياتها، فأجاءها المخاض و هي وحيدة، هاتفت أمها بصعوبة متناهية و قالت لها أن زوجها سافر دون سابق إنذار للعمل في مدينة أخرى. لم ترد إخبارها بالحقيقة حتى لا تقلقها بشأن مصيبتها الأليمة.

بعد ما تمت ولادة ابنتها ريم في ظروف عصيبة لا يعلمها إلا الله و بعد ما استرجعت قواها الجسدية. أخذت في البحث عن رياض في كل مكان و سألت عنه صديقه الذي أكد لها أن لا دراية له بمكان زوجها. 

ما أصاب الجميع بصدمة قاسية هي الحقيقة التي لم يتوقعها أحد، فأختها مريم تفوهت بكلام جارح و غير منتظر مفاده أن الشاب الذي ينوي الزواج منها تراجع عن قراره بعدما تبين أن زوج أختها مدمن مخدرات. و لامت نجلاء لوما لن تنساه أبدا، ففي خضم هذه الأزمة التي تعيشها تجرأت مريم على إيذائها   و تحميلها مسؤولية إدمان زوجها حيث لم تكن على علم هي أصلا بممارساته المشينة. 

هنا اتضحت لها معالم الطريق الذي وجب أن تسلكه للبحث عنه فربما يكون في مستشفى أو مصحة لتلقي العلاج من الإدمان و فعلا وجدته بعد طول عناء مع صديقه الذي كذب عليها و تستر عليه. 

ترجاها رياض بكل ما أوتي من قوة أن تسامحه و أقسم لها أن لا حيلة له فيما يحياه و يقاسيه حتى أنه فصل من عمله جراء تهاونه في أداء مهامه.  

لم تتفوه بكلمة واحدة، الصدمة عقدت لسانها. قبل أن تعود أدراجها دامعة المهجة طلبت منه الطلاق لأن ما قام به اتجاهها لا يغتفر أبدا حيث أخفى عنها هذا السر الرهيب. ناهيك عن فقدان الثقة بينهما.

رغم كل هذه المآسي التي تحملتها  إلا أن الحظ حالفها و كان بجانبها كما كانت صديقتها المقربة لها، هذه الأخيرة شجعتها على أخذ قرض بسيط و استثمار مبلغه في مشروع صنع الحلويات ليذر عليها ببعض الأرباح تغطي بها حاجياتها الأساسية هي و صغيرتها. 

وفعلا هذا ما حدث في غضون أيام قليلة، أخذ هذا المشروع جل وقتها و تفكيرها، أنساها بعض أحزانها و المهم أنه منحها ثقتها بنفسها و إحساسها بالمسؤولية. استعادت بعض من طباعها المرحة و المتفائلة.

هاتفتها أم رياض لتطمئن على أحوالها 

و أحوال حفيدتها، أخبرتها أن رياض تماثل للشفاء و تطهر جسمه من تأثير تلك السموم غير أن الأطباء شخصوا لديه اختلال في وظائف الكلي.. كما صدقتها القول بشأن رغبته   الملحة في رؤية ابنته ريم. 

هذا ما حدث بالفعل حيت طلب من أخ نجلاء أن يصطحبه إلى بيتها الجديد . كم ذرف من الدموع عندما ضم ابنته إلى صدره، كانت أول مرة يراها. طلب من نجلاء السماح و العفو 

و أكد لها أنه نادم أشد الندم على ما اقترفت يداه في حق أسرتهما. وعدها أنه سيبذل قصارى جهده حتى يتغير للأحسن و يبحث عن وظيفة أخرى.

في نفس المساء دار بينها و بين والدتها وفاء حديث جدي حيث أوصتها أمها بأن تفكر مليا في مصير ابنتها و كيف ستكبر بعيدة عن والدها. إذا كان هذا الأخير قد عاد فعلا إلى رشده و صوابه و اعترف باستهتاره، الأجدر بها أن تفضل لم الشمل من جديد.

مرت عدة شهور أمضتها في تدبر الأمر من جميع جوانبه و في انشغالها المستميت في عملها، استقر رأيها أخيرا على العودة لزوجها.

في حفلة زفاف أختها مريم، كان رياض 

و والدته من المدعوين،  بينما الكل يرقص فرحا على أنغام الموسيقى، اقترب من نجلاء و حمل عنها ابنته التي تعلقت به كثيرا في الآونة الأخيرة. تبادلا نظرات الحب و الحنان التي كانت كفيلة بأن يفهم كل منهما عدم قدرته على الاستغناء عن الآخر و أن نسيان الماضي أصبح واجبا حتى تستمر علاقتهما الزوجية و حتى تترعرع الصغيرة في كنفهما ..


حكيمة مكيسي. المغرب.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

(((( أبت الحقارةُ أن تفارِقَ أهلها. ))))

يا من تراقبني بصمت

((((( قلت لأحلامي تعالي فتعالت. ))))