شــجن







الأديب/ أيمن ناصر / يكتب 

 شــجن.. قصة قصيرة بقلم أيمن ناصر

كطحالب البحرٍ كانت حواسي تنشدُ التمدّد على الشاطئ تغريها الأماكن المعتمة فتسترخي كسلاً.

كنت منبطحاً بجوار باخرة مهجورة مثل ضفدع يأخذ حمَّاماً شمسياً غارقاً في كتابة قصيدة بخط الثلث على أوراق البردي بقصبة تركية مأخوذاً بسحر التواءاتها ومدّها وسكناتها. كنت وتحت حماوة الشمس والرطوبة الدبقة كأنّما غلبني النعاس حين سمعت صوتاً قريباً ينده باحترام: "يا أستاذ، لو سمحت"..

لم ألتفت. فلم أكن وحدي في المكان.

اقترب صاحب الصوت أكثر، غطى بظله الكبير أوراقي. نادى ثانية:

ـ "يا أخ، يا سيد" لم ألتفت أيضاً، لاعتقادي أنّ هذا النداء المحترم ليس لي فما أعطيته بالاً. بصراحة ما توقعت أن أُنادى بأستاذ وأنا صبيٌ صفعته الحياة وأفقدته والديه في حرب ملعونة يعمل نادلاً في مقهى الميناء وينام في زاوية أحد المستودعات على فرشة من الاسفنج الرقيق. وقف بجانبي يتأمل ما أكتب، وما كان وحده، كانت معه امرأة وفتاة. تابع قائلاً:

ــــ "ما شاء الله! تجيد خط الثلث بشكل بديع".

رفعتُ رأسي لأرى من هذا الرجل الذي استطاع تمييز الخط الذي أكتبه، وأعاد إليّ ثقتي بنفسي حين ناداني باحترام. لمحتُ طيبة ووداعة في عينيه. حاولت النهوض بسرعة احتراماً له، وضع يده على كتفي وسألني:

ـــ "أين تعمل. حدّثني عنك؟"

قلت بهدوء: لو كنت أعمل لما وجدتني منبطحاً في مكان قذر كهذا أيها الرجل الطيب.. وحسب حاستي أدركتُ أنَّ الرجل ذوّاقة يُقدّر الفن، فمعرفته لأنواع الخطوط وانتقائه لطقمه ذي اللون البترولي، مع ربطة عنق فضية، إلى جانب ذوقه الرفيع في اختيار امرأته الجميلة. التي لا تقلّ ذوقاً عنه بطريقة انتقائها ثوبها الخمري، يغطي نصف رأسها شال ليلكي منسدل على كتفيها. وفي ابنتها السمراء شبه كبير منها ووسامة تبهج الروح. المهمُّ في الأمر أنَّ المكان عبق وفوَّحَ بعطر حضورهم.

انتبهت من شرودي، كان عليّ أن أتصرف بسرعة، وارحب بهم. وفعلاً، أعددت بسرعة فائقة شيئاً يجلسون عليه. أحضرت ثلاث صفائحٍ من التنك أفردت فوقَها جرائد، وأكياس ورق، وطلبت منهم الجلوس عليها، ووضعتُ أمامهم سحّارة قديمة مسحتها بكمي، فغدت بمثابة "طربيزة"، وبلمح البصر جئتهم بثلاث عصائر مثلجة من دكانة "أبراهام" اليهودي ما كنت أمتلك ثمنها، وما كان ليدعني آخذها إلا برهن كتاب الخط والقصبات لقاء ذلك.

أُعجبت العائلة بمهارتي، وسرعة حركتي.

قدَّم الرجل نفسه باسم "فارس الحضرمي" قدِمَ منذ زمن من حضرموت إلى دمشق للدراسة، واستقر فيها بعد التخرج، ثم عاد إلى اليمن ليتزوّج ابنة عمه رنيم، وعادا ليعيشا بقية حياتهما في سورية. نظرت إلى ابنتهما التي تشبه بسمارها حبة بنٍّ شقراء. تأمّلتُها، تكاد تقارب أمها طولاً، وهي لا تقلّ عنها سحراً بعنقها الطويل وملاحة وجهها. تأمَّلتني. ثم مدّت يدها محيّية: "شجن الحضرمي"

مددت يدي، وقدّمتُ نفسي بشكل حضاري كما يفعل أولاد الذوات:

ـــــ "حمزة الحمداني" واحتضنت كفّها بكفيَّ الاثنتين.

كنت وقتها قد تجاوزت السابعة عشرة قريباً من السن التي يتحوّل فيها الصبيان إلى رجال. زغبُ شاربي قد اسودَّ قليلاً مع اسمرار وجهي من السباحة والتعرض للشمس، تفوحُ مني رائحة البحر والسمك وقليلٌ من رائحة تبغ لفافات يعطينيها أحياناً أحد البحارة هنا أو هناك مما منحني نضوجاً مبكراً مع غِلظة واضحة في بحّة صوتي.

يبدو أنني أثرْتُ إعجابها؛ فقد أبدت اهتماماً ملحوظاً بي وبجرأتي التي ورثتها عن قبيلة أمي الشمالية، أو لعلي سحرتُها بشعري الطويل، وبأنفي المعقوف الذي ورثته عن أبي. لنقل بجاذبيتي البدوية. ثم وقفتْ بجانبي، بدوتُ أطولَ منها رغم كعبها العالي. سألتها عن عمرها، عرفتُ أنها تصغرني بعامين.

جلسوا على الصفائح، وجلستُ على حجر كان قريباً، أخذوا يجاذبونني أطراف الحديث كأنني واحد منهم. سألت الأب: عم فارس كيف استدلّيت عليّ؟ أم أنّها المصادفة!

نظر إلى زوجته، وابتسم كأنّما يطلب منها أن تتحدث. قالت:

ــ "بصراحة يا بني، ونحن على سطح الباخرة تعرّفنا إلى شاب يعمل على سطحها اسمه آزاد، ومن حديث لحديث استشف أن عمك فارس يهوى الخط واقتناء اللوحات، وأنّ لديه مشروعه الخاص وبحاجة لخطاط يعمل معه، فحدَّثنا عن شاب مولع بالخط هو أنت. دلنا على مكانك قائلاً تجدونه على الشاطئ ترسم وتخط".

"يا ألله، ما أجمل ذاك الصباح! كان له مذاقٌ خاصٌ. رحت منبهراً أرقب موكب العائلة الصغير، مستمتعاً بالعزِّ الذي ينعمون فيه! اللهم لا حسد. غمزتُ شجن وضحكت بقصد المداعبة والتواصل. أعجبتها جرأتي، لكنّها كانت أكثر جرأة مني، فقد أمسكتْ راحة كفي بيدها اليمنى، فغاض قلبي بين قدمي، ثم بيدها الأخرى أمسكت يد أبيها وقالت:

ــــ "هيا أبي، دعه يعمل معك. لا ترفض أرجوك"

كان السيد فارس لا يرفض طلباً لابنته الوحيدة، هكذا عرفت فيما بعد. ولم تقصّر السيدة رنيم في دعمها للموقف حين أكّدت كلام ابنتها قائلة: "أنتَ بحاجة إلى خطاط يحقق رغبتك في إدارة محل الخط والإعلان، وأنت تدير صالة اللوحات والتحف الشرقية، ولن تجد أفضل منه مساعداً"

تمتم الرجل بصوت منخفض كأنّما يختبر صدق رغبتهما: "لكنه ما زال صغيراً على الإدارة وعديم التجربة"

ردّت عليه السيدة:

ــ "ربّه على يديك، ليكن ابننا الذي لم ننجبه، ألم تكن أصغر منه حين استلمت محلات أهلك بعد وفاة عمّي".

أثلجتْ صدري كلمات السيدة رنيم. وما أثلجه أكثر، أنَّ يد شجن مازالت ترتاح في حضن يدي. استنفرت طحالب روحي، ورقصتْ حواسي التسع. اكتشفت أنَّ للإنسان حواساً جديدة تتوالد حين تلامس يده يد حورية.

يا ألله، كم كنتُ سعيداً وقتذاك! ملأت الدموع عيني. لأول مرة يرتجف قلبي هكذا، فقد جاء من يبدد أحزاني، وينثر غضبي ديداناً للسمك بين مراكب الصيادين.

مرّت ثوان خلتها دقائق لم ينطق فيها الأب كلمة واحدة، فأوجستُ خيفة من رفضه. نظرتُ في وجهه، كان قد رفع حاجبيه وعقدهما، ثم بوَّزَ شفتيه قليلاً في وضعية من يفكر بالأمر. مرّر سبابته تحت أنفه جيئة وذهاباً ثم أرخى يده على كتفي، وسألني: "ما رأيك؟"

قلت: "هذا كرم منك وهل يُسأل مثلي عن رأيه في مثل هكذا مواقف؟" وتابعت بما يشبه الرجاء: "أتمنى يا سيدي ألاّ يكون المحل في منطقة الميناء"

ضحك العم فارس وقال: "لا عليك، سترمي كل ذلك وراءك. نحن نسكن دمشق, ما عليك إلا أن تجهز أغراضك للسفر معنا".

حين ذكر الأغراض انتبهتُ إلى أنّني لم أسترجع القصبات وكتاب الخط من بائع العصير، وما كنت أمتلك قيمة الرهن لاسترجاعها.

قال: "دعنا نذهب أولاً نستعيد أغراضك".

لم ينتظر ردّي، مشى إليه، أعطاه ثمن العصائر وأعادها. خجلت من الموقف، أعطانيها قائلاً:

ـ "بعض الناس ترى قبحهم الداخلي مرسوماً على وجوههم مثل هذا البائع".

كان لا بدّ لي أن أُعبر لهم عن سعادتي، عن ألمي الذي أصبح ورائي.

أخذت قدماي تهتزّان، انتقلت العدوى إلى جسدي كله. أخذت أرتجف مثل ريشة في مهبّ الريح كأنما أرقص طرباً. ماعدت أمتلك السيطرة على نفسي. وبسرعة البرق انزرعتُ فوق صخرة عملاقة جوار الشاطئ، فتحت ذراعيّ بأقصى ما أستطيع. أرخيت قلبي للريح، وتلبّستني روح النوارس. قذفت نفسي إلى أعلى وأنا أصرخ من أعماقي وبأعلى صوتي:

"ياألله، كم أنا أحبك! أشكرك يا الله. أنا قااادم إليك" وقفزت مثل سمكة فلتت من يد صياد طيب. غُصتُ إلى الأعماق شاعراً بشيء يشدّني إلى أسفل.

بحثت عن صدَفة كبيرة بعينها، أعرف مكانها جيداً، تقصدت البقاء أطول فترة ممكنة تحت الماء. التقطتها وصعدت بها إلى السطح، وحين ظهرت، ماكنت أدري أنني بصراخي جذبت انتباه الناس. فقد تجمعوا ينظرون هذا المجنون. عاد الصوت من جديد:

ـــ "يا سيد... يا أخ.. اصح"

فتحت عيني فزعاً كأنما كنت أصارع كابوساً مخيفاً! فركت عيني وصحوت من وجع الخيال.

كانت العيون تحدق بي. شعرت أنّ لساني يلتصق بحلقي.

ـــ ما بكم. ما الذي يجري؟

جلس الرجل بجانبي وأرخى يده على كتفي قائلاً:

ـــ لا شيء يا بني.. كنت تصرخ وأنت نائم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الرقة.. 2009


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

(((( أبت الحقارةُ أن تفارِقَ أهلها. ))))

يا من تراقبني بصمت

((((( قلت لأحلامي تعالي فتعالت. ))))