الغائب
الأديب/ موسي غافل / يكتب
قصة قصيرة منقحة
المقطع الاول
الغائب
كان قلب الأم يتأرجح بين الآلام كبندول الساعة . وقد أذعنت العائلة لقدرها ، وبقيت تتسقط الأخبار .
كان الوقت يميل إلى الظلام ، ففتحت زينب زر النور ، و ألحّت أم حسن على كنّتها لكي تتناول عشاءها . أذعنت ، وران صمت و استمرتا تثرثران.
قالت أُم حسن :
ــ آه يا زينب. ليس لي حظ يديم تلك النعمة فانكفأت .
وقالت الفتاة:
ــ دعي إيمانك قويا بالله يا عمتي ، و تضرعي لباب الحوائج أن يشفع لعودته سالما .
قالت الأم بيأس:
ــ لا حيلة لي على قلبي . ولا أنا قادرة على إيقاف وجيبه .
انبعث أنين الفتاة بحرقة ، فلاح صوتها مكلوما متهدجا.
كان نشيجها الطفولي يتموج مثل ثوب تعصف به ريح على جسدها . فاهتزت بانفعال غامر . ثم انهدّ النواح عنيفا. ولم يعد باستطاعة الأب أن يصمد، فبارح البيت. و بعد أن عاد ، وجدهما مغمورتين بحديث عام وكان مزاجهما هادئا.
قبيل الهجوع أعلنت الساعة اللحظات الحرجة , فطفقت الفتاة تنجز ما تبقى من واجبات .
انسلّت إلى غرفتها ، و مرّت حذاء سرير الطفل المنتظر الذي ترقبه الغائب طويلا دون طائل . مسّته بجسدها عفويا ، فتأرجح تأرجحات يتيمة ، قافزا باتجاه النافذة ، بصرير يشبه الأنين.
نشرت عباءتها لتوشح ثيابه تحت دثار واحد . فتضوّعت نفحة عذبة من ثيابه .
امتدت يدها و أطفأت النور .فاجتاح غرفتها شحوب خفيف ، ما لبث بعد ــ إسدال الستارة ــ أن تحوّل إلى عتمة ، استلقت و شبكت ذراعيها على صدرها ، مستسلمة لجبل من الكمد و الآلام . و تأوّهت بحسرة حرّى و تساءلت :
ــ أين أمسيت ؟
راقبت صورته التي توشّحت بعتمة ما لبثت أن تبددت . فلاحت الصورة منشدّة بكاملها ، و باستدارة تامّة نحوها .
بدا اهتمام العيون الماكرة ، والوجه الفتي المبتسم يتركز بكامله لوجهها ، تماما كما يفعل أثناء إجازاته , وأثناء عبثه و مداعباته.
هي لم تهمل ، في يوم ما ، حضور انتظارها الدائب. آنذاك كانت تنقل خطواتها كالقطة ، وسط الليل البهيم. ينط جسدها الرّهيف إلى أعلى السلّم ، بقفزات رشيقة. وتظل ترقب الطريق في حلكة الظلام ، عبر نافذة علوية ، حيث تلوح صاخبة بالعربات المسرعة المذعورة .
تراقب كل ذلك ، و تنصت بحدس متحفّز ، لكبحات السيارة التي ، ربما، يتأنى محرّكها ليتوقف .
***
في تلك الأيام الهنيئة ، طالما أرهفت سمعها ، وهي مستلقية على سريرها ، إلى هدير تلك الطريق ، الصاخبة باستمرار. لترى أحلامها ، حاملة إليها ، أعز و أبهى حبيب .
تترصّد عند النافذة العلوية : أن يقترب ضوءٌ متأنيا . فجأة يتأنّى هدير سيارة ، يزحف ضوؤها رويداً ، تلوح لها ملامح هابط، ينحدر من فوق الجادّة، بقفزات عجولة . يخفق قلبها: إنه هو يتأبّط ،ربما،حقيبة و يخطو مسرعا.
تقفز بحذر، هابطة بسرعة و هدوء . آملة أن لا ينافسها أحد في لقائه . تمر من الباب الجانبي ، تفتحه دون ضجيج ، تمرق كالسهم . يركض أمامها قلبها، باتجاه الباب الخارجي،تلحق به لتضع يدها عليه ، كي توقف طراده .
تسحب رتاج الباب .تفتحه قليلا، وتظل مختبئة خلفه، بانتظار مكبوح. تقترب خطواته العجولة . تمتد يده العزومة بالشوق لتقرع. ثم .. يفاجأ بانتظارها . يلهث ويقفز قلبه في حلقومه ، فتضع يدها على فمه ، لتكبح صوته ، وتندفع بكاملها إلى صدره . يحتضنها و تغور في قلبه المشوّق و يتعانقان.
تفر من بين ذراعيه ، وتخبط بجمع كفيها على الشباك وهي تعلن بهوس عن وصول حسن .
وكان اللقاء حارا كالجمر . فيترطب خدّه بدفق دموع أمه الثر. ويقف الأب أمام هذه اللحظات ، منتظرا بشوق.
مرّ كل ذلك ببالها، وهي مستلقية على قفاها . تأوّهت و كفكفت دموعها وقالت في أعماقها:
ــ ما أروع أن تكون الحياة كلّها شوقاً، مختومة باللقاء و الفرح ؟
* * *
تتذكّر ان الأب لاحت له أخيرا فرصة ليطفئ ظمأه، بما تبقّى له من كأس الشوق .
ثم .. أسرع حسن إلى مرجانته القرنفلية يتفقّدها . فبدت له ريّانة ، وكم أسف ، حين لم يجد لها برعما ناميا.
آنذاك جلسوا جميعا يثرثرون ووقفت صامتة . ثم تجلس وتغور عيناها في عينيه، فيختلس بين حين و حين ، نظرات جافلة يبعثها لوجهها الخمري، مذيّلة بابتسامة متمسكنة ، تطلب الصفح و المغفرة ، من هذا الانشغال .
تنتبه زينب لنفسها فتهرع لكي تحضّر ماءا دافئا.تخلع حذاءه و جوربيه ، وتغمس قدميه بماء فاتر، ثم تفركهما بحنان وصمت.
تنصرف لغسل الجوربين و تهيئ الحمّام، ثم تعود على عجل لتحضر الغذاء. وتسرع بوضع إبريق الشاي. والحديث يدور وهي تدور. وبين لحظة وأخرى تسرق وقتا لتسمع عن أخباره و حديثه اللذيذ.
وكان حسن يبدو بإجاباته لاهثا ، حتى كأنه يريد أن يفرغ من كل شيء.
في تلك اللحظات تظل زينب واقفة خرساء لتوحي بذلك : أن المقابلة قد انتهت و حان وقت الانصراف .
ودون كلام تعلن عيونها الماكرة : من فضلكما انتهت المقابلة . تنظر الأم فتدرك ما يدور بخلد الفتاة ، وتفهم أن وقتهما قد ضاق.
تنفرد معه بشوق حار . ثم تهيّئ زينب ملابسه النظيفة و تدفع به إلى الحمّام دفعا. تأخذ ملابسه المتسخة ، فتضوّع رائحتها الحادّة ، وتلقيها فوق حمّالة الحمّام.
يدخل مخدعه .. يسود الصمت أكثر...تسفر الحلكة رويدا رويدا... يكون فارس الساعة الرشيق، منتضيا سهمه ليقنص الدقائق و ينثرها فوّاحة ودودة ، قاطعا دورة كاملة. ثم ينسل حسن من سريره خارج الغرفة ، ليلقي خارجا فتات وقته .
يعود بعد هنيهة ، فتعود هي من خلفه مسرعة ،, يغمزها بعينه الماكرة و يبتسم . يتلقّفها بين ذراعيه كالطفل . يحاول تطويحها في الهواء و تذعر . تستقر بين ذراعيه وتطوّق عنقه .استنجدت هامسة بأذنه :
ــ دخت.
موسى غافل
يتبع
تعليقات
إرسال تعليق