امتلاك الذات






الكاتب / أحمد سليمان أبكر/ يكتب 

 قصة قصيرة:

***

امتلاك الذات

يخترق حالة البؤس التي يعيشها ليحيا حياة ذاتين، ذات تحيا حياة النور،مفهمومة، مقروءة، واضحة، وذات تحيا في الظلام غامضة، منافقة، مبهمة،ما تعلنه للناس غير ما هو بداخلها، ذاتان منفصلتان في شخص واحد.

تطور الأمر،أخذ يتصرّف مع ذاته بطريقة، مع زوجته بطريقة،مع أبنائه بطريقة، مع أقاربه بطريقة، و مع الناس أجمعين بطريقة، لم تعد له ذاتان بل ذوات متنوعة متعددة، يحتار من حوله مع أي منها يتعامل ، بل يحتار هو نفسه،أي ذات يختار ليتعامل مع غيره؟!

جاءه النادل بلباسه المميز: ماذا تريد؟

-قهوة، وصحيفة يومية.

جاءته طلباته، كلها دفعة واحدة، وفاتورة الحساب، التي كتبت بحروف كمبيوترية، رأي أرقامًا لم يقوى على فهمها، ترك على المنضدة ورقة نقدية (مائة جنيه) وهو تقريبًا ربع دخله اليومي من غسيل السيارات، كان يتخيل أن كل طلباته ستكون أقل من ذلك،تخيل أن يكون المعترف بحقيقة نفسه، وتأتيه فاتورة كمبيوترية كهذه، ستنهض قامته في وجه الجميع (النادل، صاحب المقهى والجلساء) يشتم ويذم المترفين كعادته الذين ينفقون إنفاق من لا يخشى الفقر.

 رشف قليلًا من فنجانه، الصفحة الأولى من الجريدة التي جاءته تبرز افتتاحية رئيس التحرير، كتابة الرجل تعجبه، مع ذلك تظل قراءة الافتتاحيات السياسية مضجرة، تحول منها إلى قراءة الأبراج،مع أنه لا يجد فرقًا واضحًا بين الأبراج والافتتاحيات السياسية، فكل منها تتحدث عن أمور قد تكون وقد لا تكون أبدًا،وهو منتقل إلى صفحة الرياضة استوقفه خبر في الصفحة الاجتماعية مفاده أن محاضرًا جامعيًا، يغسل وينظف في يوم عطلته الأسبوعية، سيارات سكان الحي الصغير الذي يقيم فيه، بعد موافقتهم بالطبع، ولما تخلو المدينة ليلًا من السابلة وحركة السير  وإزدحامها،ينهب شوارعها بدراجته النارية موزعًا ما اشتراه بأجرة الغسيل من حاجيات بين فقير وآخر ومتشرد وآخر بحركة دائرية تكاد لا تهدأ حتى تنبلج خيوط الفجر الأولى إيذانا بميلاد يوم جديد،يكون قدر رسم فيه ابتسامة هنا وهناك  على شفاه أولئك البؤساء. 

جلس في تلك الليلة أمام منضدة فوقها أكداس من الصحف، رفع بين يديه صحيفة خبر المحاضر الجامعي، أخذ يتبصّر كلمات هذا الخبر، مستحضرًا إلى حافظته وهو قارئ جيد رغم تعليمه المتواضع ما قاله المفكرون في معرفة الإنسان لذاته. 

أخذ يتساءل:

 -هل تعدد الذات محمود أم مذموم؟

اتخذ قرارًا حاسمًا بإشعالها معركة مع نفسه بشأن ازدوجية بل تعدد الذوات: 

-لا أحد يريد أن يكون ذاته، أغلبهم لا يملك مالًا ويتصرف وكأنه يملك أموال قارون، أغلبهم فقراء يخافون إعلان فقرهم، لماذا لأن الناس يحبونهم أغنياء، أغلبهم وضعاء يخافون إعلان وضاعتهم،لماذا لأن الناس يحبونهم وجهاء!

-لكني لست غنيًا ولا وجيهًا حتى أُلزم ذاتي بمظاهر الأغنياء والوجهاء. أبني لزوجتى وأبنائي من المواعيد الفارغة قصورًا مزخرفة بالأحلام ، وأخدع الناس بمظهري كل صباح كموظف كبير يعمل في إحدى كبرى الشركات في وسط المدينة؛ ويزداد يقينهم عندما يروني اعتلي سيارة السيد المدير الذي يأخذني معه كل صباح وهو في طريقه إلى مقر الشركة وأنا مجـــرد ساعي في مكتبه، وهو الذي يعطف علي 

لحاجتي وعوزي.

-لا لا لكن الناس لا يحترمون إلا مظاهر المال والجاه، ولا أحد يريد 

إلا أن يكون محترما.

-لكن أي احترام لشيء لا أملكه، علي أن أملك ذاتي، لا أعتقد أن أحدًا عاقلا يحبني حقًا إلا إذا كنت واضح، وكنت ذاتي حقا،والأهم أنا من أحب ذاتي، وأتعرى من أسراري الوهمية التي خلقتها بذاتي، فمن لا يملك سرًا، يعيش مرتاحًا، يعيش بوضوح، ومن يحيا بصدق يرتاح من الكذب ومن التشويش ومن عقدة الحياة الزائفة التي يحياها.

ما لبث يحدث نفسه عن ذاته،حتى ما غرقت ذاته في موضوع معرفة الذات نهض فجأة ومد ذراعيه وصرخ بأعلى صوته قائلًا: 

نعم..نعم، إن معرفة الذات هي أم كل معرفة، أما أنا فعليّ أن أعرف ذاتي ، وأعرفها تمامًا، وأعرفها بتفاصيلها  ومعالمها ودقائقها وعلي أن أزيل النقاب عن أسرار ذاتي وأمحو الالتباس عن مكامنها كما فعل المحاضر تمامًا،يا له من رجل عرف ذاته، وأداء الواجب لذاته، بقطع النظر عما يترتب على هذا أو ذاك من نتائج، فمن أراد أن يعلم الناس المكارم فليحي ضمائر ذواتهم، وليبث فيها الشعور بحب الحقيقة، والنفور من الخديعة.

أحس أنه تحرر من قسوة تعدد الذات، الذي استنزف أعصابه وجعله معتصرًا، منكمشًا كعصفور مرتجف، ظل يراقب سكون العاصفة سنين عددا، بدأ يفكر بالذي سيقوله للناس في الحي الذي يغادره كل صباح في هيئة موظف يشار إليه بالبنان، وجد من الضروري أن يقول الحقيقة، حاول اختصار الحوار مع نفسه، وظهر تضجره وقلقه من هذه السوداوية المباشرة التي تلونه، لكنه بات مقتنعًا أن لا حل غير قول الحقيقة كاملة غير منقوصة، رغم تخوفه من تنامي  التضجر في نفوس زوجته وأبنائه.

اليوم عطلة نهاية الأسبوع،اقترحوا تناول الإفطار في شرفة الشقة الصغيرة الكائنة في بناية متواضعة قابعة في أطراف الحي،فتح الابن الأكبر الحوار كعادته، سأل إن كانت نهاية الشهر سينتج عنها جهاز الحاسوب الذي وُعد به، كانت أسئلتهم تدق رأسه بقوة، هم لا يفكرون إلا بالذي سيُقدم لهم من وسائل الوجاهة التي بدأت تُمارس في الحي.

أراد أن يقنعهم أن للحياة وجهًا آخر غير السيارة، والحاسوب والشقة الفخمة. 

واجهته نظراتهم القاسية في نوع من الرفض لآرائه الجديدة التي لم يعتادوا عليها من قبل.

قالوا له بصوت واحد: إن كان لا يستطيع أن يحقق لهم مطالبهم،يدعهم يبيعون الشقة الحقيرة هذه.

فسألهم: وأين ستسكنون؟

ردوا: نستأجر.

الابن الأكبر مُصر على معرفة متى سيستلم جهاز الحاسوب، استشف له أن أي إجابة في هذا المجال ستكون ذات عواقب سيئة على أحلامهم التي كانت تتشكل وتأخذ أبعادًا غير واقعية، وأن كل ما يجري لا يبدو له منطقيًا، ترك الشرفة وخرج إلى الشارع وتفرّق البقية إلى مخادعهم وقد خاب ظنهم على الأقل في المدى المنظور بعد أن اتضحت الحقيقة كاملة غير منقوصة.

لأول مرة يفقد القدرة على توجيه أفكاره مباشرة لزوجته، داعبها بكلمتين ناعمتين، مستحسنًا صفاء وجهها، وطيبة قلبها، فصفحت عنه،نزل وجلس على الرصيف أسفل البناية،صار رأسه كشاشة تلفاز تتزاحم فيها صورة كثيرة، مر به عدد من شباب الحي، توقف معه البقال،في هذه المرة لم يطالبه بقائمة الدين التي تواصل تضخمها،ابتسم من كل قلبه، وأظهر له ودًا غريبا:

أحببت فقط أن أسلم عليك وأن اطمئن على حقيقة ما ينشره الناس عنك، وأنا الذي كنت استغرب واستفهم..كيف لمـــوظف كبير يسكن  

في مثل هذه الشِقة الحقيرة وهو مثقل بالديون؟!  

رغم قساوة كلمات البقال، إلا أن إيقاع الراحة كان يتمشي في شرايينه، وقد أحس منذ تلك اللحظة أنه أزاح عن كاهله ثقل تعدد الذات، وهو الذي أضحي يخرج في أسماله كل صباح كساعي، لا يكترث لنظرات الناس ولا لأقوالهم، وقد امتلك ذاته.  

***

بقلم الكاتب: أحمد سليمان أبكر

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

(((( أبت الحقارةُ أن تفارِقَ أهلها. ))))

يا من تراقبني بصمت

((((( قلت لأحلامي تعالي فتعالت. ))))