زينب








الأديب/ محمد نور الدين/ يكتب 

 (قصة قصيرة) زينب

أشعر أنني لن أستطيع صعود الدرك، لم أكن أشعر أبداً بأنني لا أستطيع فعل شيء من قبل، كانت بداخلي طاقة يمكنني أن أصفها أنها كانت طاقة لا حدود لها، كنت أقبل على كل شيء بحماس المراهقين رغم أنني في أوسط العقد السادس، انظر الى الدرك بتكاسل لم أدركه من قبل، لم أكن يوماً أتخيل أن يصيبني ذلك التكاسل، وربما ذلك اليأس، اليأس الذي لم أفهم معناه من قبل، اليأس الذي يأتي لك فجأة فينخر عظامك في لحظات، فتشعر أن قلبك مريض، وان عقلك لا يستطيع أن يدرك شيء أو أن يفكر في شيء، اليأس الذي كنت أسخر منه وممن يتكلم عنه، اتلك هو اليأس الذي يمكنه أن ينتصر عليك بل ويقتلك في ساعة، أعيش كل تلك السنوات بالأمل والطموح وفي ساعات يهزمني يأس جاء من حيث لا أدري.

هل سأبقى كثيراً امام الدرك لا أحاول أن أصعده، لا أحاول.. بل أخاف ان اصعده، وربما أهرب من الصعود.

جئت تواً من عزاء من كانت تنتظرني أعلى الدرك، فلمن أصعده، ولمن أكمل حياتي التي أصبحت بائسة.

هل يمكنني أن أنسى يوماً ما ثلاثين عاماً من حياتي، فقط هي حياتي تلك الثلاثون عاماً فمن يمكنه أن يحتسب كل عمره من حياته، فقد يولد المرء برغبة أبويه ويحمل اسماً برغبة أبوية ويتعلم أو يعمل برغبة أبويه وربما يكتسب المرء هوايات وصفات من ابويه وبرغبتهما ولكن الحياة التي فقط تنتسب لنا هي الحياة التي نصنعها نحن، الحياة التي نختارها نحن، الحياة التي نقودها نحن.

زينب هي الفتاة العفيفة الهادئة الملامح السمراء النحيفة ذات الضفيرتين المنسدلتين على كتفيها وما أجمل خطواتها صباحاً وهي ترتدي ملابس المدرسة الثانوي في الصباح وتعلق في كتفها الايسر حقيبة متوسطة الحجم تبدو ثقيلة، تسير وعيناها ثابتتان في طريقها لا تنظر لأحد ولا ترى غير طريقها، كانت تبدو في سيرها كجندي في أرض الطابور ورغم أنها تسكن في المنزل المجاور لمنزلنا القديم الا أنني لم أشاهدها الا وقت ذهابها للمدرسة في الصباح.

زينب هي الزوجة المثالية التي وافقت على الزواج من موظف في بداية حياته لا يملك غير راتبه ولا يعول حياته على أحد ولا يتعشم في الآخرين، ووقفت بجانبه تؤازره وتحملت العيش في مجتمع فقير الخدمات مثل الوادي الجديد ورغم تلك السنوات التي لم تكن تستطيع زيارة أهلها طوال العام إلا أنها لم تمل ولم تكف عن تشجيعي لأعود للدراسة الاكاديمية وأحصل بمعاونتها وبسبب تلك السنوات على الماجيستير والدكتوراة.

ليس حسب بل تعلمت من نساء الوادي الجديد كل ما يمكنها عمله في المنزل حتى أنواع الجبن المختلفة وأنواع الأسماك المملحة وأنواع المربى والعصائر وكيفية حفظ اللحوم وصناعة البسطرمة وغيرها.

زينب هي الام التي أخرجت من منزلنا ابنتين تتمتعان بحسن الخلق والأدب والثقافة والعلم وهما الآن أكاديميتان في أفضل جامعات أوربا تعيش كل منها مع زوجها الدبلوماسي والعسكري في إيطاليا.

زينب هي الفتاة الأولى التي أعجبت بها واحترمتها وهي الفتاه العطوف التي اخترتها وهي المرأة التي كنت أعشقها كل يوم أكثر من أمسه، فقد كانت تؤدي الرسالة كما يجب أن تكون وكانت تصنع كل شيء من أجلي ومن أجل أسرتنا.

عن أسوأ وقت عشته في ذلك المنزل كان عامان من القلق والريبة، وهما العامان الذان توليت فيهما مسئولية الوزارة كمساعد أول للوزير، تلك الفترة التي عانت فيها زينب من الوحدة قليلاً وربما عانت أكثر من القلق، فلم تكن تستطيع النوم وكانت تصرح لي انها تخاف على من ذلك العمل وتلك المسئولية والظهور الإعلامي والظهور في حضرة الوزراء فالجميع مستهدفون.. نعم عامان وزينب لا تستطيع النوم جيداً، وتلك الفترة التي أصابها المرض والاعياء ورغم أنها كانت تتلقى أفضل رعاية صحية إلا انها لم تشعر بتحسن الا وقت أن تركت تلك المسئولية وتقاعدت في المنزل، ولم أكن أستطيع أن أصل الى تلك الراحة التي وصلت اليها، فقد تقاعدت وأصبحت أكاديمي متفرغ وحسب وتلك كانت صدمة لي أن أتحول إلى أكاديمي بلا عمل وبلا هدف وبلا شيء،

رغم أنها كانت تشعرني أن ذلك أفضل لي وأنني صنعت كل ما أستطيع صنعه وأديت دوري بالكامل، ورغم أنها كانت تحاول أن تقنعني أنها أصبحت أفضل مما كانت ولا تحتاج مطلقاً لأي نوع من الرعاية الصحية، ورغم أنها كانت تحاول أن تتفرغ لي بالكامل لنتكلم ونتناقش ولا تكلم ابنتينا الا في وجودي لكي أشعر اننا مازلنا اسرة نعيش سوياً، ورغم كل ذلك كانت هي تموت بينها وبين نفسها، وكانت لا تكل ولا تمل عن العمل داخل المنزل لتشعرني انها أفضل مني صحة.

هي التي كانت تنتظرني كل يوم بعد أن أعود.. كانت تنتظرني..

لمن أصعد الدرك.. كيف أستطيع أن أصعده، كيف يمكنني أن أصعده فلا أجد زينب.

محمد نورالدين

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

(((( أبت الحقارةُ أن تفارِقَ أهلها. ))))

يا من تراقبني بصمت

((((( قلت لأحلامي تعالي فتعالت. ))))