"ضيعة أهــل الشــمــس"





الأديب  / ربيع دهام  / يكتب 


 "ضيعة أهــل الشــمــس" 


ضيعة أهل الشمس. ضيعةٌ يعشقها الشاعر والرسام ،

والموسيقي الفنان. وكل محبٍ للهدوء والسلام.

ضيعةٌ تربتها خصبةٌ خلاقة.

ينابيعها صافية رقراقة . 

سماؤها عشيقة العصفور. 

وجوها  وردٌ وعطور. 

تقع على سفح جبل كبير هو لها الأب الحامي  والسند القوي. 

وهو التوأم الأبدي.

لو رسمها بيكاسو من دون جبلها، 

لظهرت لوحته باهتة كئيبة حزينة. 

لوحة لضيعةٌ يتيمة  تدمع وتئن.

ذات يومٍ أشيعَ في القرية أن الله قد نزل من السماء إلى 

قمة الجبل . وأنه سيقيم هناك لأيام قليلة.

انطلق الخبر على صهوة الألسن إلى الضيع

 المجاورة ، قبل أن يكمل طريقه إلى العاصمة. 

ثم  ، على أجنحة المحطات التلفزيونية ، سافر إلى الأوطان المجاورة ، قبل أن يشد الرحال إلى تلك البعيدة.

وفي اليوم التالي تقاطرت مجاميع الناس من كل حدب وصوب ، وتسمروا جميعاً حول الجبل الكبير.

كان من بينهم المؤمنون والملحدون ،

وكان العلماء والمستكشفون ، 

والفلاسفة والوثنيون ،

وكان البسطاء والمثقفون ، 

والأغنياء والفقراء، 

والمظلومون والمستكبرون،

وكان الكاذبون والصادقون،

والرأسماليون والشيوعيون،

واليساريون واليمينيون،

وكان "العولميون" والقوميون،

ومناصرو البيئة ومناصرو الكسارات.

كلهم. كلهم كانوا هناك.

كلٌ يريد الصعود إلى القمة. وكلٌ له أسبابه الخاصة والعامة. 

المؤمن يريد أن يرى الله ليثبت للملحد أن الله موجود.

والعالِم يريد أن يرى الحقيقة أولاً ثم يقرر.

والملحد يريد أن يثبت للمؤمن أن الله لا يمكن أن يكون هناك على القمة لأنه بالأصل غير موجود.

والفيلسوف يريد أن يحدد ماهية الله.

والمظلوم يريد أن يشكو لله ظالميه.

والغني يريد من الله أن يزيد في أملاكه.

أما المؤسسات الدينية ، فقد اصطفت كلٌ بحسب الدين التي

تنتمي إليه ، وأخذت تلم مبالغ "اشتراكات" الإيمان. 

وفي لحظةٍ  مشتركة  بدأوا جميعاً بالصعود.

كلٌ أخذ طريقه الخاص المختلف عن طريق الآخر. 

الطريق الوعرة.

الطريق الصخرية. 

الطريق الغير ممهدة.

الطريق الترابية.  

الطريق الإسمنتية.

والطريق المتعرجة الحلزونية.

هذا اختار أرضاً  يكثر فيها النبات.

وهذا طريقاً ممتلئة الحصى.

وذاك فضّل أن يسير قرب الصخور.

وذاك فوق الشوك كي يتمسك بها إن تعثرت قدماه.

في البدء - وأقول في البدء - كان كل شيء على ما يرام.

كل شيء على ما يرام إلى أن ....

إلى أن وصل أول اثنين إلى تقاطع طريق.

إلى أن تصادم درب صاعد مع درب صاعدٍ آخر.

عندها قال الأول  للثاني : " إفسح لي الطريق.

أنا سأمر قبلك لأني بحاجة أن أرى الله وبسرعة".

فأجابه الثاني : " بل إفسح أنت لي الطريق.  أنا سأمر قبلك لأني أريد أن أعرف الحقيقة وبسرعة".

وبفعل العناد المتبادل  ، وبسبب الأنانية المشتركة ، نشب

 شجار بينهما.

وعلى التقاطع الآخر نشب شجارٌ آخر.

وعلى ذاك التقاطع خلاف آخر.

وعلى ذاك التقاطع تعارك بالأيدي.

وعلى ذلك تصارع. وعلى ذلك حرب.

وعلى ذلك ارتُكِبت مذبحة.

هنا تراشق بالصخر وبالحصى.

وهنا سحب للسكاكين وللسيوف.

وهنا سحب للسلاح.

وهنا سحب للهويات المذهبية والدينية.

وهنا سحب للبطاقات الحزبية.

وهنا سحب للجنسيات الدولية.

وبدل أن يكونوا كلهم الآن في طريقهم التصاعدي إلى

 الله ،  راحوا ينزلقون في صراعات أبعد ما تكون عن الله.

وبدل أن يكونوا في طريقهم إلى حضن الجنة الموعودة ،

ألقوا بأنفسهم في جهنم ، خلقوها لأنفسهم ، على سفوح ذاك الجبل الكبير الحزين.

هذا ألسقوط الأخلاقي أوقف الصعود.

وهذه المشاجرات السخيفة أجهضت الأحلام.

وتلك العصبيات القاتلة اغتالت الحقيقة.

خلافاتهم الظرفية الصغيرة ، أعمتهم عن الهدف الأبدي الكبير.

ومرت الساعات هباء.

وبقوا جميعم هناك.  حيث هم هناك. كلهم هناك.

على تخوم هذا الجبل.

 يتقاتلون فيما بينهم.

 يتصارعون .

يتعاركون.

حتى أن الكثير منهم تدحرج بدمه المراق إلى القاع.

وصارت كل الورود حمراء .

وصار ربيع الأرض دمٌ ودموع.

كلهم في ارتفاعهم الأناني سقطوا. 

وكلهم في تكبرهم وتجبهرم صغروا.

وكلهم عادوا إلى نقطة الصفر. إلى البداية. إلى الكهف الأول.

كلهم إلا طفل وطفلة.

كلهم إلا  وردتين.

التقيا عند تقاطع طريق ترابية ضيقة. 

فضحك هو وضحكت هي.

وفرح هو ، وفرحت هي.

قال لها : " أعطني يدك لنصعد سوياً ".

وقالت له : "أعطني يدكَ لنصعد سوياً".

وعند تقاطع الطريقين ، وعند التقاء القلبين، 

وعند تشابك اليدين ، ومن قاع قلبها  ، وقاع قلبها 

ظهر الله! 

هو لم يأتِ من قمة الجبل. 

هو أتى من مكان ما في داخلهما.

 بذوره مزروعة هناك ، في كل قلبهما.

وحدها النفس الخيِّرة كانت التربة الصالحة التي تفتحت فيها البذور.

فانبثقت روح الله من قمقم النفس كالعصفور.

لا...الله لا ينتظرنا هناك .

الله ليس في القمة.

 بل الله هو  القمة التي ، متى وصلنا إليها ، صعدنا بها إلى أعلى جبل. 

وإلى كل جبل...


(بقلم ربيع دهام)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

(((( أبت الحقارةُ أن تفارِقَ أهلها. ))))

يا من تراقبني بصمت

((((( قلت لأحلامي تعالي فتعالت. ))))