🍁طريق سيارة🍁

الأستاذة/حنان الرقيق الشريف
تكتبــــ 
🍁طريق سيارة🍁

لا أدرك جيّدًا الوقت الذي تحركت فيه سيّارتي∙ كنتُ مغتاظًا . كان لا بدّ أن أغادر منزلي بلا رجعةٍ∙ محال أن يجمعنا نفس السّقف من جديدٍ∙
المقودُ يتوجّع تحت سياطِ يديّ القابضتين على جسده بقوّة و كأنّني أنتقم لكرامتي المهزومة∙
نظرتُ نِظرةً سريعةً إلى الفضاء من حولي∙السّماء ملبّدةٌ و السّحبُ الدّكناء تتدافع متناطحةً تنذر بعاصفةٍ هوجاءَ∙ وميض برقٍ في الأفق يخطف الأبصار و يخطف ذاكرتي المشوّشةَ∙ إلى أين سآوي هذه  الليلة؟
مالت عربتي نحو الطّريق السّيّارةِ و بدأت تنهَب الأرض نهبًا تُسابق تلبّد الغيوم∙ أرى أمامي نسرا شامخا يرفّ بجناحيه يحيّي العابرين∙ غير بعيد تشكّلت السّحب أفعى رقطاء.هل هي خيالات زوجتي؟
جمعني القدر بها في فرنسا ∙كنت طالبا مجدّا أبحث عن الاستقرار∙ساعدتني و أوتني و منحتني الجنسيّة∙ و تحصّلت بسرعةٍ فائقةٍ على العمل∙ و باجتهادي استطعتُ أن أنحت اسمي في سماء الشركات العالميّة∙ فارتقيتُ في سلّم الدرجات و أصبحت مشهورا .و بدأت علاقتي تفتر حد البرود.
و فكّرت أن أعود إلى بلادي و إلى حضن والديّ و قد هجرتهما أكثر من خمس عشرة سنة∙ لم يكونا راضييْن على زواجي بأجنبيّةٍ∙ و قد رغبا في أن أستقرّ في وطني و أن أعقد رباطا مقدّسا مع حوريّة بلدي∙ لكنّني تمسّكتُ بجوليا∙ فمقتا ذكرها
 و رفضا التّواصل معها حتّى على الهاتف∙ و لم يغفرا لي الجفاء∙ فعصفت بقلبي الرّياح و فتتت روحي أعاصير الندم.
تطلعتُ إلى النّافذة، تيّارات عاتية و أزهار تتطاير في السّماء.
مع بداية ذبول خيوط الشّمس تحرّك الرّعد يهزم∙ ثمّ أرسلت السّماء وابلها∙ ليتني أستطيع أن أوقف عجلات السيّارةِ∙ أهيم بلا هدفٍ يغطّيني عويل سحاب حالك∙تلطم زخاتُ المطر القويّة زجاج النّافذة بين الفينة و الأخرى∙ فتستفزّ خيالاتي المتقرّحة و تجثمُ على وحدتي في هذا القفر∙ و زلزلت صواعق الرّعد جدران فؤادي∙و دوّت الرياح في مسامعي كزعيق الجنّ∙ آن الأوان أن أدفع بقاربي المضطرب إلى بحر الأنغام∙ بحثتُ عن قناة صاخبةٍ تبدّد وحشتي و تتغلب على نقرات المطر∙فلم أفلح و انصهرت همومي  مع ضجيج الغيوم∙
لاح لي عن بعد بريق أنوار يتلألأ∙ فأدركت أنني اقتربت من محطة استخلاص ∙ فتنفسّتُ الصّعداء و بدأ هدير الرعد
 يخفتُ و جنون المطر يسكن∙ لمحت طفلا ينادي على آخر رغيف تحت مظلة متأوهةٍ∙ زقزقت عصافير بطني و مددتُ يدي المرتعشة لأبدّد سغبي∙ تهلّلت أسارير الصّغير الذي بدا تحت الأمطار كجرو متشرّد∙ قطع لي التذكرة و سلمني الخبز بيدين ملطختين بالسّواد∙ و كدت أن أقضم اللّقمة الأولى 
و انا أستعد للانطلاق من جديد إلا ان المحرك خفتت أنفاسه
 و همدت حركته∙ منبّه سيارة متعجلةٍ يطلق صفيرا مزعجا∙ فأومأت لصاحبها أن يغيّر الرواق حتى أبعد سيارتي المعطبة لكن من سيساعدني؟؟ تسلل الطفل من النّافذة و أعرب عن استعداده للدفع∙ سمعته ينادي بأعلى صوته لصحبه الموزّعين على طوار المحطة∙ يا لحظي المنكود حتى بطارية هاتفي خمدت∙ وجدت الصبيّ يقترح عليّ أن أصحبه إلى منزله القريب في انتظار النّجدة∙ فقبلت دون تردّد∙ سألته عن اسمه فردّ بعفويّة:
« اسمي سعيد و أبي فرحات و أمّي تدعى سعديّة و أختي فرح» 
ضحكت دون أن أنبس فأردف« إنها جمهوريّة السعادة يا سيدي‼»
بلغنا المنزل بعد أن قطعنا دروبا وعرةً، غطت غدائر المياه الأخاديد ∙و غسل المطر كل دهاليز روحي المظلمة∙ اِستقبلتني العمة سعديّة أحسن استقبال في بيت حقير مؤلف من حجرة و مطبخ∙
تراءى لي قصري الشامخ الذي سكنه الصقيع∙كنت أفكّر جدّيا منذ فترة في الرّحيل عنه∙ و حملت حقائبي أكثر من مرّة، لكنّني تركتها لها∙ و تركت الجدران تتلظى بجحيم عراكنا اليوميّ∙ كانت تريد العودة إلى بلادها
و رفضت ذلك بشدة كيف لي أن أعود بعد أن كسبت مرضاة والديّ بجهد جهيد؟؟
 كنت قد هجرتهما و خالفت رغبتهما و خذلت أمانة رعاية أحلامهما إلا أنّني عدتُ لأقبل التّراب تحت أقدامها و قبلا عن كره∙ كنت أزورهما من حين إلى آخر لأطمئن على صحّة أمي∙ لقد شاخت و تهدّلت  لكنّ قلبها لم يرض بالغريبةِ التي احتلت أرض وحيدها∙ فانغمستُ في العمل حتّى أنسى خيباتي∙ فكرت أن أنشئ جمعيّة لمساعدة الفقراء و أزيد أسهمي في بورصة العمل الخيريّ، تعاهدت أكف نديّة على سقايتها بمال نقيّ∙ و نصحني بعضهم بالترشّح إلى منصب الرئاسة بعد أن اصطفّ القوم في طوابير الزّعامة كما يتهافت الذباب على الوليمة∙كيف أكون رئيس بلاد و لم أستطع أن أكون سيد بيتي المتجمّد؟؟ أخشى كثيرا الاحتكاك بالناس و ها أنا في بيت كلحت جدرانه المقشرة و تآكلت نوافذه و صفرت الرياح بين جنباته .في ركن الغرفة أب مقعد يبتسم في خشوع  ناظرا إلى رجليه المتبيستين.
أجلت البصر في أركان المكان.خواء مقيت، كرسي أعرج
 و سرير مشلول و سجادة بالية.
لكنّ الطفلة فرح تغنّي و ترقص في المطبخ الصغير حول تنور يتضوّر جوعا∙ سارعت العمة بذبح دجاجتها اليتيمة لتكرم إطلالتي البهيّة∙ فعصبت رأسها و شمرت على ذراعيها القويتين تحت جلباب فضفاض مسترسل حتى الكعبين∙ اِجتاحني إحساس غريب بالارتياح و الضيق.
 ذكرتني ملامحها بضفائر أمي  الفاحمة∙ رأيت في ملامحها الأصيلة حزن أمي∙رمقتها بامتنان ∙ سعيد يساعدها في كل شيء : هي تخبز و هو يبيع هي تجمع الحطب و هو يحمله على ظهره الخشن∙ هي تعمل في الحقل و هو يسهر الليل يراقب الزرع العقيم∙
كانت النافذة تصطكّ من البرد ∙ غشانا صمت ثقيل مرهق قطعه بوح سعيد∙ حدثني عن أمّه التي تترنّح يوميا في شاحنة حبلى بعشرات النسوة∙ حدّثني عن أخته فرح التي حرمت من نور الحرف∙ حدثني عن والده المقعد الذي 
 تسوّست عظامه∙ حدثني عن أخيه الرضيع الذي عاد من المستشفى موؤودا في ورق مقوّى∙ همس ساخرا« كان اسمه سعد» أصابتني قشعريرة ∙ لسعني حرماني من الأبوة∙ قصر شامخ، زوجة أجنبيّة ، مال وفير لكنّ القلب خاو∙ بكل حنان دعوت الله أن يحفظ هذه العائلة التي  تعيش في بيت  تلطمه الرّزايا لكنها تشعر بالسعادة∙
هل عشت مع جوليا هذا الإحساس؟ نعم لقد عشقت حبها للحياة ،للسفر، للحقائب المتطايرة على أجنحة الحنين∙ زرت معها كل بلدان العالم∙ أخفت في صمت حزنها من قطيعة والديّ∙ أذعنت لرغبتي في العودة إلى أرض الوطن بيد أنها 
لم تستطع أن تنحت لها وجودا في خارطة عائلتي∙
سعت أكثر من مرّة أن تجسس عل أحاديثنا على الهاتف∙ زرعت سماعات في الجهاز و  تفطن أبي  الأمني الخبير لذلك ∙قال إنها جاسوسة بامتياز∙ فلم أكثرث و حفرت الجرح و واصلت الطريق إلى أن فاض كأس الصبر و قرّرت العودة∙ فتركت لها البيت في انتظار غروب المصير∙
مضت الليلة الموحشة و أشرق صباح مضيء∙ فابتهج الحقل الصغير تحت أشعة شمس دافئة∙
و استطعت أن أتصل بالنجدة من دكان صغير∙ ودعت العائلة في امتنان كبير∙
 حقيبتي تنتظر الرجوع∙ وجدت مخرج العودة و قفلت إلى بيتي الحزين.
هل رحلت جوليا؟ هل اقتطعت تذكرة السفر؟
غصتُ في دوامة الحيرة فابتلعتني  و لم أتفطّن إلى طول السفر∙ عندما اقتربت من شبح قصري تراءت لي جوليا  ترفل في ثوب أبيض شفّاف منمّش بالسواد∙ فاتنة من فاتنات الزهور البريّة  تستجدي سيارة أجرة تقلّ أحزانها∙
حدجتني بنظرة طافت برأسي في دائرة قطرها عمري∙ همست و هي تنظر إلى حقائبها المشتعلة في أتون المكابرة
« أنا حامل∙∙»
ألفيت نفسي عالقا في أسلاك الحدود∙
بقلمي حنان الرقيق الشريف من تونس /صفاقس 20/9/2019

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

(((( أبت الحقارةُ أن تفارِقَ أهلها. ))))

يا من تراقبني بصمت

((((( قلت لأحلامي تعالي فتعالت. ))))