.... العم عمر🌿
الكاتب_الشاعر أ. عبد الفتاح الطياري
🌿🌿🌿🌿🌿🌿🌿🌿
العم عمر
الفصل الثاني صوت الأرض
شُيِّدت القرية بعد جهد طويل...لم يكن أحد يعرف متى وُلد العمّ عمر، ولا أين دُفن. كان ببساطة موجودًا، كما لو أن القرية وجدته في أحد أيام الخصب الأولى، فتبنّته مثلما تتبنّى الشجرة ظلّها.
كان يظهر فجأة عند الحقول، يحمل فأسه ويبدأ العمل، كأن الأرض لا تنبت إلا بيده. وإذا اجتمع الشباب في الساحة، جاء بصوته الجهوري يغني، لا ليمتعهم، بل ليذكّرهم أنهم جماعة، وأن صوتهم لا يكتمل إلا إذا اختلط ببعضه.
حين يختلف الناس، كان يمرّ بينهم كنسمة تهدّئ النار. لا يعظهم، لا يرفع إصبعه، فقط يقول:"الأرض لا تحب الصراخ. من أراد أن يفهمها، فليصمت قليلاً."
كان وجهه يشبه وجه القرية نفسها: بسيطًا، مليئًا بالتجاعيد، لكنه يحتوي نورًا يشبه المطر حين يلامس الغبار. ومع مرور السنين، صار الناس يخلطون بينه وبين الذاكرة. فإذا قال أحدهم: "هكذا كان يفعل العمّ عمر"، شعر الآخرون أنهم يتحدثون عن زمن كامل، لا عن شخص واحد.
في المواسم الصعبة، حين يجفّ الماء أو يقلّ الزرع، كان أهل القرية يذهبون إلى الحقول صامتين، يحملون معاولهم وقلوبهم، كأنهم يواصلون عمله. لم يقل لهم أحد ماذا يفعلون، لكنهم كانوا يعرفون. لقد صار صوت العمّ عمر فيهم، في طريقة مشيهم، في صبرهم، في إيمانهم بأن الأرض لا تخون من يخدمها.
حتى الأطفال الذين لم يروه، كانوا يرسمون صورته في دفاترهم، كما لو أن القصص التي رواها الكبار نبتت فيهم. أحدهم قال يومًا: "العمّ عمر لا يعيش في السماء، بل فينا. هو نحن حين نصدق، وحين نتعب ولا نشتكي."
وهكذا، لم يعد أحد يسأل إن كان العمّ عمر حيًا أم ميتًا. صار اسمه مرآةً للضمير الجمعي — إذا عملوا بصدق، قالوا: "العمّ عمر راضٍ." وإذا ظلموا أحدًا، صمتوا، لأنهم يشعرون بأن صوته في داخلهم يوبّخهم بهدوء.
وفي مساء بعيد، بعد أمطار غزيرة، خرجت القرية كلها إلى الحقول لتتفقد الزرع. كانت الأرض خضراء على غير عادتها، والنسيم يمرّ خفيفًا كهمسة صلاة. وقف شيخ منهم وقال:"لقد عاد العمّ عمر."
لكن لم يكن أحد يراه. كانوا فقط يسمعون صوتًا خافتًا، يأتي من أعماق التراب:"اعملوا، وازرعوا، وكونوا رحماء... فالإنسان لا يُذكر باسمه، بل بما زرع في الآخرين."
ومنذ ذلك الحين، صار العمّ عمر أكثر حضورًا من أي وقت مضى — لا في جسده، بل في ضمير القرية كلها، كصوت خفيّ يوقظ الخير كلما نام، ويذكّرهم أن الأرض، مثل الضمير، لا تنبت إلا بالصدق.
يتبع
بقلمي عبدالفتاح الطياري -تونس

تعليقات
إرسال تعليق